Nothing Special   »   [go: up one dir, main page]

Academia.eduAcademia.edu

مدخل إلى التجربة النقدية والفكرية

2014

كثيراً ما وُجّهَ إليّ السؤال عن المنهج النقدي المناسب في تحليل الظواهر الثقافية، أو في تحليل النصوص الأدبية، وغالباً ما كانت الإجابة متعذّرة، أو في الأقل شبه متعذّرة؛ لأن علاقة الناقد بالمنهج نسبية، وهي علاقة متحوّلة لا تثبت على حال بين زمن وآخر، فضلاً عن وجود اختلاف بين النقاد حول وظيفة المنهج بين مَنْ يراه قالباً صارماً ينبغي إخضاع النصوص له ومَنْ يراه دليلاً يهتدي به لتحليل النصوص واستنطاقها. وفي ضوء ذلك يصبح الجزم برأي نهائي حول علاقة الناقد بالمنهج، وعلاقتهما بالظواهر المدروسة ضرباً من الادّعاء الذي يتكفّل الزمن بإبطال مفعوله، وبعبارة أخرى، فكل حديث ينصرف إلى وصف مكتمل لهذه العلاقة يجد نفسه متورطاً في خضم سلسلة من الادّعاءات التي لا تملك براهينها، لأنه ينطلق من افتراض عام، هو استقرار التجارب النقدية وثباتها، وانكفاء الناقد على نفسه فلا يتفاعل مع الكشوفات النقدية والمنهجية الجديدة، وهذا أمر خارج نطاق الإمكان بالنسبة إلى كل ناقد حقيقي، كون التجربة النقدية مفتوحة على آفاق لا نهائية، وليس من الصواب حصرها ضمن مقولات ثابتة ونهائية؛ لأنها ستضيق بنفسها، وتتعطل فاعليتها المعرفية إذا ما ...

‫‪CORE‬‬ ‫‪View metadata, citation and similar papers at core.ac.uk‬‬ ‫‪brought to you by‬‬ ‫‪provided by University of Kufa: UOK Journal Hosting Service‬‬ ‫ختام العدد‬ ‫مدخل إلى التجربة النقدية والفكرية‬ ‫إلي الس�ؤال عن المنهج النقدي المناس�ب في تحليل‬ ‫كثي�ر ًا م�ا ُو ّج َه ّ‬ ‫الظواه�ر الثقافي�ة‪ ،‬أو ف�ي تحلي�ل النص�وص األدبي�ة‪ ،‬وغالب ًا م�ا كانت‬ ‫ّ‬ ‫اإلجاب�ة ّ‬ ‫متع�ذرة؛ ألن عالق�ة الناقد بالمنهج‬ ‫متعذرة‪ ،‬أو في األقل ش�به‬ ‫متحولة ال تثبت على حال بين زمن وآخر‪ ،‬فض ً‬ ‫ال عن‬ ‫نسبية‪ ،‬وهي عالقة‬ ‫ّ‬ ‫وج�ود اختالف بين النقاد حول وظيفة المنهج بي�ن َم ْن يراه قالب ًا صارم ًا‬ ‫ً‬ ‫دلي�ال يهتدي به لتحليل النصوص‬ ‫ينبغ�ي إخضاع النصوص له و َم ْن يراه‬ ‫واستنطاقها‪ .‬وفي ضوء ذلك يصبح الجزم برأي نهائي حول عالقة الناقد‬ ‫بالمنهج‪ ،‬وعالقتهما بالظواهر المدروسة ضرب ًا من اال ّدعاء الذي يتك ّفل‬ ‫الزم�ن بإبطال مفعوله‪ ،‬وبعبارة أخرى‪ ،‬فكل حديث ينصرف إلى وصف‬ ‫مكتمل لهذه العالقة يجد نفسه متورط ًا في خضم سلسلة من اال ّدعاءات‬ ‫الت�ي ال تمل�ك براهينه�ا‪ ،‬ألن�ه ينطل�ق م�ن افتراض ع�ام‪ ،‬هو اس�تقرار‬ ‫التج�ارب النقدي�ة وثباته�ا‪ ،‬وانكف�اء الناق�د على نفس�ه ف�ال يتفاعل مع‬ ‫الكش�وفات النقدية والمنهجية الجديدة‪ ،‬وهذا أمر خارج نطاق اإلمكان‬ ‫بالنس�بة إلى كل ناقد حقيقي‪ ،‬ك�ون التجربة النقدية مفتوحة على آفاق ال‬ ‫نهائي�ة‪ ،‬وليس من الصواب حصرها ضمن مق�والت ثابتة ونهائية؛ ألنها‬ ‫س�تضيق بنفس�ها‪ ،‬وتتعطل فاعليتها المعرفية إذا ما ّقيدت إلى مرجعيات‬ ‫عبداهلل إبراهيم‬ ‫*‬ ‫ثابت�ة‪ ،‬وا ّدعت اليقين المطل�ق فيما تذهب إليه‪ ،‬فكل تجربة نقدية تغتني‪،‬‬ ‫رؤي�ة ومنهج� ًا‪ ،‬م�ن خالل الح�وار والتفاع�ل والتواصل بي�ن المعارف‬ ‫متحول يري�د تجديد ذاته‬ ‫يص�ح الحديث إال عن مس�ار‬ ‫والمناه�ج‪ ،‬وال‬ ‫ُّ‬ ‫ّ‬ ‫الكوفة‪ ،‬السنة ‪ ،2‬العدد ‪ ،4‬خريف ‪223 2013‬‬ ‫ّ‬ ‫محكمة‬ ‫الكوفة‪ :‬مجلة فصلية‬ ‫ليواكب عمليات التحديث في الفكر اإلنساني‪ .‬وعليه‬ ‫ّ‬ ‫يتع�ذر الحديث عن تجرب�ة نقدية نهائي�ة‪ ،‬ناهيك عن‬ ‫عالقة ناجزة بمنه�ج‪ ،‬فاألكثر موضوعية هو االلتفات‬ ‫إل�ى جمل�ة م�ن األف�كار وال�رؤى والموضوع�ات‬ ‫وت�م من‬ ‫المتغي�رة الت�ي انتظم�ت ف�ي نس�ق فك�ري‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫خالله�ا الكش�ف عن سلس�لة م�ن القضاي�ا المتصلة‬ ‫بالممارسة النقدية والفكرية‪.‬‬ ‫يمك�ن فه�م الممارس�ة النقدي�ة بوصفه�ا ح�وار ًا‬ ‫األدبي�ة والمعرفي�ة‪ ،‬ويأخ�ذ مصطلح‬ ‫م�ع النص�وص‬ ‫ّ‬ ‫«الح�وار» داللت�ه م�ن كونه نقط�ة تلتقي فيه�ا مقاصدُ‬ ‫القارئ‪-‬الناق�د بالمقاص�د المضم�رة للنصوص‪ ،‬بما‬ ‫يفض�ي إلى ض�رب م�ن التفاع�ل والحوار ال�ذي هو‬ ‫نت�اج قطبي�ن‪ ،‬ينطل�ق كل منهما صوب اآلخ�ر‪ .‬وهذا‬ ‫التفاعل‪ ،‬هو ما يصطلح عليه اآلن ب�«القراءة»‪ .‬ويقصد‬ ‫بها‪ :‬اس�تراتيجية تعويم المقاصد المضمرة والمتناثرة‬ ‫الت�ي تنط�وي عليها النصوص‪ ،‬اس�تناد ًا إل�ى حيثيات‬ ‫منهجي�ة يتو ّف�ر عليه�ا القارئ‪-‬الناقد‪ .‬ه�ذه «القراءة»‬ ‫س�واء أكانت أسلوبية أو بنائية أو داللية‪ ،‬هي «جوهر»‬ ‫الممارسة النقدية بمفهومها الحديث‪.‬‬ ‫للق�راءة اتجاه�ات متع�ددة‪ :‬منه�ا م�ا يقتصر على‬ ‫النص�وص ذاتها محاو ً‬ ‫ال اس�تكناه خصائصها الذاتية‪،‬‬ ‫ومنها ما يس�تنطق تلك النصوص بهدف اس�تخالص‬ ‫قيم ثقافية واجتماعي�ة‪ ،‬ومنها ما ينطلق من مرجعيات‬ ‫النص�وص الخارجي�ة لتفس�يرها وتأويله�ا‪ ،‬ومنه�ا‪،‬‬ ‫النصية والمرجعيات‬ ‫أخير ًا‪ ،‬م�ا يربط بين المكون�ات‬ ‫ّ‬ ‫الخارجي�ة التي تحتضنها في محاول�ة لر ّد اإليحاءات‬ ‫‪ 224‬الكوفة‪ ،‬السنة ‪ ،2‬العدد ‪ ،4‬خريف ‪2013‬‬ ‫النصية إلى ُنظم ثقافية‪ .‬وقد اندرجت هذه االتجاهات‬ ‫ف�ي مقتربي�ن كبيرين‪ ،‬أولهم�ا «المقت�رب الخارجي»‬ ‫وهو ُيعنى بتحلي�ل المرجعيات التي ّ‬ ‫تغذي النصوص‬ ‫بعناصره�ا‪ ،‬س�عي ًا إلى كش�ف األثر ال�ذي تتركه تلك‬ ‫المرجعي�ات في النص�وص‪ ،‬وينضوي ف�ي إطار هذا‬ ‫المقت�رب عدد من المناهج‪ ،‬مث�ل‪ :‬المنهج التاريخي‪،‬‬ ‫واالجتماعي‪ ،‬والنفسي‪ ،‬وثانيهما «المقترب الداخلي»‬ ‫وينص�رف اهتمام�ه إلى استكش�اف المزاي�ا الخاصة‬ ‫النصية‪.‬‬ ‫للنصوص‪ ،‬وبيان نظمها الداخلية‪ ،‬ودالالتها‬ ‫ّ‬ ‫ويدخل ضمن هذا المقت�رب عدد من المناهج‪ ،‬مثل‪:‬‬ ‫المنه�ج الش�كلي‪ ،‬والبني�وي‪ .‬ولم يعدم تاري�خ النقد‬ ‫األدبي محاولة اإلفادة من كشوفات هذين المقتربين‪،‬‬ ‫والتوفي�ق بينهما‪ ،‬ومقارب�ة النصوص األدبية في ضوء‬ ‫ذل�ك‪ ،‬وه�و م�ا تج ّلى ف�ي «نظري�ة الق�راءة والتلقي»‬ ‫ومنهج التفكيك‪.‬‬ ‫تق�وم الق�راءة النقدي�ة‪ ،‬بوصفه�ا فعالي�ة منشّ �طة‬ ‫للنصوص‪ ،‬على ركيزتين أساس�يتين‪ ،‬هم�ا‪« :‬الرؤية»‬ ‫الت�ي يص�در عنه�ا الناق�د‪ ،‬و«المنه�ج» ال�ذي ي ّتبع�ه‬ ‫لتحقيق األهداف التي يتوخاها من قراءاته‪ .‬و«الرؤية»‬ ‫ه�ي‪ :‬خالص�ة الفهم الش�امل للفعالي�ة اإلبداعية‪ ،‬أما‬ ‫«المنهج» فهو‪ :‬سلسلة العمليات التي يهتدي بها الناقد‬ ‫وهو يباش�ر النصوص األدبية وصف ًا واستنطاق ًا‪ ،‬شرط‬ ‫أن يكون «المنهج» مس�تخلص ًا من آفاق تلك «الرؤية‪.‬‬ ‫وأية قراءة ال تأخذ بالحسبان هاتين الركيزتين‪ ،‬بدرجة‬ ‫أو بأخرى‪ ،‬تفقد‪ ،‬فيما نرى‪ ،‬ش�رطها النقدي األصيل؛‬ ‫ألنه�ا لم تتو ّف�ر على الثوابت األساس�ية التي تقتضيها‬ ‫عبداهلل ابراهيم‪ :‬ختام العدد‪/‬مدخل إلى التجربة النقدية والفكرية‬ ‫ع�ن الس�رد العرب�ي قديمه وحديث�ه‪ ،‬وضمنه ج�اء كتابي‬ ‫الممارسة النقدية الواعية‪.‬‬ ‫العربية»‪ .‬وقد‬ ‫«المتخي�ل الس�ردي» ثم كتاب�ي «الس�رد ّية‬ ‫أث�ارت قضية «الرؤي�ة والمنهج» اهتم�ام نقاد األدب‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ودارس�يه‪ ،‬ويمكن التأكيد عل�ى ّ‬ ‫اهت�م الكت�اب األخير بمنحى مح�دّ د من مناح�ي الثقافة‬ ‫أن الجانب الخصب في‬ ‫تك�ون‬ ‫الممارس�ة النقدي�ة‪ ،‬تج ّلى بأفضل ص�وره‪ ،‬حينما حصل‬ ‫العربي�ة وه�و «الس�رد» بوصف�ه مظه�ر ًا تعبيري� ًا‪ّ ،‬‬ ‫وتكي�ف بفعل‬ ‫العربية‪-‬اإلس�المية‪،‬‬ ‫ف�ي حض�ن الثقاف�ة‬ ‫اقت�ران بي�ن هاتي�ن الركيزتي�ن‪ .‬وف�ي غي�اب أي منهم�ا‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الخارجي�ة التي صاغ�ت أنظمت�ه الداخلية‪،‬‬ ‫الموجه�ات‬ ‫يصب�ح النقد ضربا م�ن التضليل والخ�داع واالنطباعات‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الس�اذجة‪ ،‬وكل ه�ذا ّ‬ ‫عل�ى ّ‬ ‫أن العناي�ة انصرف�ت إلى «س�رد ّية» ذل�ك المظهر‪،‬‬ ‫تنكب ع�ن جوهر النق�د ووظيفته‪.‬‬ ‫به�دف اس�تنباط األنس�اق‬ ‫إن غي�اب الوع�ي بأهمية النقد‬ ‫كل تجربة نقدية تغتني‪ ،‬رؤية ومنهجاً‪،‬‬ ‫واألبني�ة الخاص�ة ب�ه‪ ،‬ألن‬ ‫مت�أت م�ن ع�دم إدراك أهمية‬ ‫من خالل الحوار والتفاعل والتواصل بين‬ ‫الس�ردية ‪ Narratology‬ال تعنى‬ ‫الرؤي�ة والمنه�ج‪ ،‬ذل�ك أن‬ ‫يصح الحديث‬ ‫المعارف والمناهج‪ ،‬وال ُّ‬ ‫بالمتون السردية في ذاتها‪ ،‬إنما‬ ‫فع�ال يص�ل بين‬ ‫النق�د نش�اط ّ‬ ‫إال عن مسار متح ّول يريد تجديد ذاته‬ ‫الن�ص والمتلق�ي‪ ،‬فكم�ا ّ‬ ‫المكونات الس�ردية‬ ‫بتجلي�ات‬ ‫أن‬ ‫ّ‬ ‫ليواكب عمليات التحديث في الفكر‬ ‫‪ Narrativity‬ف�ي النص�وص‬ ‫الن�ص بحاج�ة إلى متل�قّ قادر‬ ‫اإلنساني‪.‬‬ ‫األدبي�ة‪ ،‬أي بالممارس�ة الت�ي‬ ‫على تفجير مضمراته ودالالته‬ ‫الخفي�ة‪ّ ،‬‬ ‫المكونات ضمن‬ ‫اتخذتها تلك‬ ‫ف�إن المتل ّق�ي بحاجة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫البنية السردية‪.‬‬ ‫إل�ى ن�ص يدفع�ه لتحوي�ل تصورات�ه الثقافية إلى نش�اط‬ ‫تأملي وعقلي وجمالي‪ّ ،‬‬ ‫الزم البح�ث‪ ،‬ف�ي هذا الموضوع‪ ،‬ح�رص على عدم‬ ‫يمكنه من بلوغ حالة اإلحس�اس‬ ‫إخض�اع «الس�رد ّية العربي�ة» لمعيار خارجي مس�تمد من‬ ‫المش�ترك بالمتعة والمعرفة في آن‪ ،‬وهذا التجاذب يكون‬ ‫موروث س�ردي آخ�ر له مرجعيات�ه الثقافي�ة الخاصة به‪،‬‬ ‫أكث�ر أهمي�ة إذا توس�طته «قراءة» ُتس�هم في استكش�اف‬ ‫ّ‬ ‫والمتش�كلة طبق� ًا لظ�روف تاريخية مختلف�ة عن ظروف‬ ‫القطبي�ن المذكورين‪ ،‬ومن أبرز ش�روط الق�راءة الفع ّالة‪،‬‬ ‫نش�أة الظاه�رة الس�ردية ف�ي الثقاف�ة العربي�ة؛ فاله�دف‬ ‫صدوره�ا ع�ن «رؤي�ة» خصب�ة‪ ،‬وانتظامه�ا ف�ي «منهج»‬ ‫تكونت‬ ‫كفء‪.‬‬ ‫كان رس�م مالم�ح هوية «الس�ردية العربية» كم�ا ّ‬ ‫واس�تقامت ضم�ن المحض�ن الثقاف�ي العرب�ي ال�ذي‬ ‫تش�ك ّلت فيه‪ .‬ولم ينظر إلى الس�رد العرب�ي‪ ،‬بوصفه ركن ًا‬ ‫الممارسة النقدية والدراسات السردية‬ ‫معرفي� ًا من أركان الثقاف�ة العربية‪ ،‬إنما نظ�ر إليه‪ ،‬بوصفه‬ ‫لدي في النصف‬ ‫مالمح هذا‬ ‫تبلورت‬ ‫التصور النقدي ّ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫الثاني من ثمانينيات القرن العشرين‪ّ ،‬‬ ‫مظهر ًا تمثيلي ًا‪ ،‬اس�تجاب لشروط تلك الثقافة ومعاييرها‪،‬‬ ‫فوظفته في دراستي‬ ‫الكوفة‪ ،‬السنة ‪ ،2‬العدد ‪ ،4‬خريف ‪225 2013‬‬ ‫ّ‬ ‫محكمة‬ ‫الكوفة‪ :‬مجلة فصلية‬ ‫خطابي�ة‪ ،‬انزاحت‬ ‫فتج ّل�ت في�ه عل�ى أنه�ا مكون�ات‬ ‫ّ‬ ‫موجهاته�ا الخارجي�ة‪ ،‬وبخاص�ة‬ ‫إلي�ه بس�بب هيمن�ة ّ‬ ‫خلفية تمرأت‬ ‫الش�فاهية واإلس�ناد‪ ،‬فالس�رد العرب�ي‪ّ ،‬‬ ‫الموجهات‪ ،‬وق�ام هو ب��تمثيل ‪Representation‬‬ ‫فيها‬ ‫ّ‬ ‫خطابي لها‪ ،‬وليس عكسها ‪.Reflection‬‬ ‫اس�تدعت هذه الرؤية النقدية للموروث الس�ردي‬ ‫وتعب�ر عنها‪،‬‬ ‫الحاج�ة إل�ى عملي�ة‬ ‫منهجي�ة ّ‬ ‫تعومه�ا‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫فاعتمد على نوع من «االس�تقراء الفني» الذي يس�تند‬ ‫إلى االستنطاق تارة‪ ،‬والوصف والتحليل تارة أخرى‪،‬‬ ‫فكان أن ُش ّ‬ ‫صت الثوابت والمتغيرات‪ ،‬واستنطقت‬ ‫�خ ْ‬ ‫األص�ول‪ ،‬ثم اس�تخلصت الهياكل العام�ة التي تؤطر‬ ‫وت�وج التحلي�ل‪ ،‬بكش�ف‬ ‫بني�ة المروي�ات الس�ردية‪ّ ،‬‬ ‫الموجهات الخارجية وبنية‬ ‫مستويات التمثيل بين بنية‬ ‫ّ‬ ‫الس�رد‪ ،‬األمر الذي يؤكد ّ‬ ‫أن االتص�ال كان قائم ًا فيما‬ ‫بينهم�ا‪ ،‬عل�ى نح�و تمثيلي‪ ،‬في أش�دّ الركائ�ز أهمية‪،‬‬ ‫وهو‪ :‬اإلرس�ال بأركانه م�ن را ٍو وم�روي ومروي له‪.‬‬ ‫وكان الح�رص قائم ًا على ضرورة اس�تنطاق األصول‬ ‫المعرفي�ة اس�تنطاق ًا يبتع�د ع�ن «التقويل» ويت�رك لها‬ ‫عم�ا تغيب�ه دونم�ا تعس�ف‪ ،‬س�وى توفير‬ ‫أن تكش�ف ّ‬ ‫«الظ�روف المنهجية» التي تس�هل‪ ،‬بوس�اطة القراءة‪،‬‬ ‫عملي�ة كش�ف المقاص�د والمرام�ي الت�ي تنط�وي‬ ‫عليه�ا األصول؛ ذل�ك ّ‬ ‫أن الهدف ال ي ّتجه إلى كش�ف‬ ‫تناقضات األصول بذاتها‪ ،‬إنما استنطاقها‪ ،‬بما يجعلها‬ ‫الموجهات الخارجية‬ ‫عما تك ّنه‪ ،‬لتتضح طبيعة‬ ‫ّ‬ ‫تس�فر ّ‬ ‫الت�ي كان�ت تمارس س�لطتها في الخطاب الس�ردي‪،‬‬ ‫وإلى ّ‬ ‫كل ذلك فلم نهدف بمصطلح «السردية العربية»‬ ‫‪ 226‬الكوفة‪ ،‬السنة ‪ ،2‬العدد ‪ ،4‬خريف ‪2013‬‬ ‫أي مقص�د عرقي‪ ،‬إنما اإلش�ارة إل�ى المرويات‬ ‫إل�ى ّ‬ ‫ٍ‬ ‫وبني�ات‪ ،‬ضمن الثقافة‬ ‫الس�ردية التي تكونت أغراض ًا‬ ‫الت�ي أنتجتها اللغة العربية‪ ،‬الت�ي كان التفكير والتعبير‬ ‫فيه�ا‪ ،‬يترتّ�ب بتوجي����ه م�ن الخصائص األس�لوبية‬ ‫والتركيبي�ة والداللي�ة لتل�ك اللغة التي أس�همت فيها‬ ‫أعراق متعددة‪.‬‬ ‫ضمن هذا األفق ترتّب عملي النقدي على الس�رد‬ ‫العربي القديم‪ ،‬وفيه ترتّب عملي الالحق على الس�رد‬ ‫العربي الحديث‪ ،‬مع اإلفادة الواضحة من الكشوفات‬ ‫المس�تمرة التي ش�هدتها البحوث الس�ردية‪ ،‬والتوسع‬ ‫ف�ي المنظور الع�ام ل�أدب ووظيفته‪ .‬والح�ال هذه‪،‬‬ ‫فقد وج�دت ّ‬ ‫أن الرواي�ة العربية إحدى أه�م الظواهر‬ ‫األدبية في ثقافتنا الحديثة‪ ،‬وأنها موضوع قابل للبحث‬ ‫وإع�ادة البحث مجدد ًا بصورة مس�تمرة؛ ألنها انبثقت‬ ‫خض�م التداخ�الت الثقافي�ة القديم�ة والحديثة‪،‬‬ ‫م�ن‬ ‫ّ‬ ‫وم�ن تفاع�ل المرجعي�ات العربي�ة واألجنبي�ة‪ ،‬وفيها‬ ‫اندمج�ت عناص�ر كثيرة؛ أدبي�ة وتاريخي�ة واجتماعية‬ ‫ونفس�ية‪ ،‬فقامت بعملي�ة تمثيل رمزي ألش�د القضايا‬ ‫ً‬ ‫وفض�ال عن ذلك ّ‬ ‫فإن‬ ‫أهمي�ة في التاريخ االجتماعي‪،‬‬ ‫االهتم�ام بتقني�ات الس�رد وأس�اليبه وأبنيت�ه وداللت�ه‬ ‫لدي‪.‬‬ ‫استأثر باألهمية األساسية ّ‬ ‫وبم�رور الوقت اتس�ع مج�ال االهتم�ام النقدي‪،‬‬ ‫فكم�ا حرص�ت عل�ى تفس�ير نش�أة الظاهرة الس�ردية‬ ‫ف�ي الثقافة العربي�ة القديمة‪ ،‬ووصف أبنيتها الس�ردية‬ ‫والداللي�ة‪ ،‬فق�د صرف�ت اهتمام� ًا مضاعف� ًا لدراس�ة‬ ‫الس�ردية العربي�ة الحديث�ة‪ ،‬فل�زم ذل�ك بن�اء الس�ياق‬ ‫عبداهلل ابراهيم‪ :‬ختام العدد‪/‬مدخل إلى التجربة النقدية والفكرية‬ ‫لم نهدف بمصطلح "السردية العربية" إلى‬ ‫ّ‬ ‫أي مقصد عرقي‪ ،‬إنما اإلشارة إلى المرويات‬ ‫السردية التي تكونت أغراضاً‬ ‫وبنيات‪ ،‬ضمن‬ ‫ٍ‬ ‫الثقافة التي أنتجتها اللغة العربية‬ ‫العربي�ة ف�ي الق�رن التاس�ع عش�ر‪،‬‬ ‫الثقاف�ي للس�رد ّيات‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الثقافي�ة ش�به المجهول�ة الت�ي‬ ‫واس�تعادة التفاع�الت‬ ‫ّ‬ ‫ش�هدت انهي�ارات نس�قية ف�ي مفه�وم األدب‪ ،‬وتح ّل�ل‬ ‫ّ‬ ‫تش�كل األن�واع الجديدة‪،‬‬ ‫أبني�ة الس�رد القدي�م‪ ،‬وبداي�ة‬ ‫ّ‬ ‫للفرضيات الش�ائعة حول نش�أة‬ ‫وح�ذرت م�ن االمتث�ال‬ ‫ّ‬ ‫التح�رر من هيمن�ة الخطاب‬ ‫تل�ك الظاه�رة‪ ،‬إنما يج�ب‬ ‫ّ‬ ‫التصورات الشائعة‬ ‫رس�خ جملة من‬ ‫ّ‬ ‫االس�تعماري الذي ّ‬ ‫ّ‬ ‫عن نشأة الس�ردية العربية الحديثة باعتبارها مستعارة من‬ ‫متعجلة‬ ‫السرديات الغربية‪ ،‬وهي‪ ،‬في تقديري‪ ،‬تصورات ّ‬ ‫صاغت الوعي النقدي صوغ ًا قاصر ًا‪ ،‬واختزلته بتأثيرات‬ ‫س�لبية جاهزة‪ ،‬وليس عبر تفاعالت س�ياقية خصبة أ ْث َر ْت‬ ‫يتوخى الد ّقة الحفرية ينبغي‬ ‫الظاهرة السردية؛ فكل بحث ّ‬ ‫علي�ه أال يهمل التركة الس�ردية الت�ي تراكمت طوال أكثر‬ ‫من ألف عام‪ ،‬ثم ّ‬ ‫تفككت بالتدريج في القرون المتأخرة؛‬ ‫فالس�رد ّية العربية الحديثة ظاهرة ّ‬ ‫مركبة تفاعلت أس�باب‬ ‫نص‬ ‫طليعي انشقّ‬ ‫كثيرة من أجل ظهورها‪ ،‬ولم تكن نتاج ّ‬ ‫ّ‬ ‫ارا جديدً ا اتّبع فيما بعد‪ ،‬فذلك‬ ‫عن نس�ق‬ ‫نوعي فأوجد ّتي ً‬ ‫ّ‬ ‫القضية األكثر‬ ‫الس�ردي الضخم‪ ،‬ويهمل‬ ‫يستبعد الرصيد‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫يتكون فيها نوع جديد من أمش�اج‬ ‫خط�ورة‪:‬‬ ‫الكيفية التي ّ‬ ‫ّ‬ ‫الظواهر الس�ردية السابقة عليه‪ ،‬كما أنها لم تستجلب من‬ ‫س�ياق ثقافي غريب عنها‪ .‬وبع�د ذلك اقترحت النظر إلى‬ ‫الرواي�ة باعتباره�ا من «المرو ّي�ات الكبرى» التي تس�هم‬ ‫الثقافية لأمم‪ ،‬ذلك أن الس�رد يبتكر‬ ‫الهو ّيات‬ ‫في ص�وغ ُ‬ ‫ّ‬ ‫�ال ّ‬ ‫متخي ً‬ ‫بمرجعيات�ه‪ ،‬ويصبح من‬ ‫وينظ�م العالق�ة‬ ‫عالم� ًا‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫نص ّية‬ ‫مدون�ة ّ‬ ‫الض�روري تغيي�ر موق�ع الرواية م�ن كونها ّ‬ ‫الثقافية الحاضنة‬ ‫بالخلفيات‬ ‫إلى خطاب تعدّ دي منش�بك‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫متنوعة في قيمها‬ ‫له‪ ،‬مما يفضى إلى ظهور عوالم س�رد ّية ّ‬ ‫واقعا‪ ،‬أو يعكس‬ ‫يسجل السرد ً‬ ‫وتصوراتها ومواقفها‪ ،‬فلم ّ‬ ‫ّ‬ ‫متخيلة مناظرة للعوالم‬ ‫حقيقة‪ ،‬إنّما يقوم بتركي�ب عوالم‬ ‫ّ‬ ‫الواقعي�ة‪ ،‬لك ّنها مختلفة عنها‪ ،‬إ ّ‬ ‫يتدخل التأويل‬ ‫ال حينم�ا ّ‬ ‫ّ‬ ‫ف�ي كش�ف بع�ض أوج�ه التماث�ل فيم�ا بينه�ا‪ ،‬فالعوالم‬ ‫السردي‪.‬‬ ‫المتخيلة من نتاج التمثيل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫التخ ّيل التاريخي‬ ‫تنوع الكتابة الس�ردية دفع بي إلى اس�تقصاء‬ ‫عل�ى أن ّ‬ ‫بعض ضروبها الثانوية‪ ،‬فاس�توقفتني منها أشكال سردية‪،‬‬ ‫وموضوع�ات ل�م يكن أم�ر ّ‬ ‫تخطيه�ا ممكن� ًا‪ ،‬ومن ذلك‬ ‫ب�«التخيل التاريخي»‬ ‫ضرب من الكتاب�ة اصطلحت عليه‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫المتش�كلة بواس�طة الس�رد‪ ،‬وقد‬ ‫التاريخية‬ ‫وه�و الم�ا ّدة‬ ‫ّ‬ ‫والوصفي�ة‪ ،‬وأصبحت‬ ‫التوثيقية‬ ‫انقطع�ت ع�ن وظيفته�ا‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫التاريخي ال يحيل‬ ‫فالتخيل‬ ‫جمالية ورمز ّية‪،‬‬ ‫تؤ ّدي وظيفة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ي�روج لها‪ ،‬إنّما‬ ‫يقررها‪ ،‬وال ّ‬ ‫عل�ى حقائق الماض�ي‪ ،‬وال ّ‬ ‫مفسرة ألحداثه‪ ،‬وهو من نتاج‬ ‫يس�توحيها بوصفها ركائز ّ‬ ‫ع�زز بالخيال‪ ،‬والتاريخ‬ ‫الم ّ‬ ‫العالقة المتفاعلة بين الس�رد ُ‬ ‫دع�م بالوقائ�ع‪ ،‬لك ّنه تركي�ب ثالث مختل�ف عنهما‪.‬‬ ‫الم ّ‬ ‫ُ‬ ‫بالهو ّية‪،‬‬ ‫وقد ظهر عل�ى‬ ‫ثقافية لها صلة ُ‬ ‫خلفية من أزمات ّ‬ ‫ّ‬ ‫الكوفة‪ ،‬السنة ‪ ،2‬العدد ‪ ،4‬خريف ‪227 2013‬‬ ‫ّ‬ ‫محكمة‬ ‫الكوفة‪ :‬مجلة فصلية‬ ‫ق�ادرا على‬ ‫الس�رد‪ ،‬فينتج عن ذلك تش�كيل جديد يكون‬ ‫والرغب�ة في التأصيل‪ ،‬والش�رود نحو الماض�ي‪ ،‬باعتباره‬ ‫ً‬ ‫مما يعبر عن�ه التاريخ‬ ‫مكافئ ًا سرد ّي ًا لحاضر كثيف تتضارب فيه وجهات النظر‪،‬‬ ‫التعبي�ر عن حياة اإلنس�ان بأفض�ل ّ‬ ‫األدب�ي بذاته‪ ،‬فحياة البش�ر ُتدرك على‬ ‫وحده‪ ،‬أو الس�رد‬ ‫فوصول األمم إلى مفترق طرق في مصائرها يدفع بسؤال‬ ‫ّ‬ ‫بالتخي�الت‬ ‫نح�و أس�هل وأمت�ع حي�ن يج�ري تمثيله�ا‬ ‫التاريخية‪-‬الس�رد ّية إلى المقدّ مة‪ ،‬ويصبح االتّكاء‬ ‫الهو ّية‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫عملية تأوي�ل‪ ،‬وتأويل‬ ‫التاريخي�ة‪ ،‬ألن «فه�م الذات ه�و‬ ‫على الماضي ذريع�ة إلنتاج ُهو ّية تقول بالصفاء الكامل‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫مفض ً‬ ‫التاريخية‪ّ .‬‬ ‫الذات بدوره يجد في الس�رد واسطة بامتياز ّ‬ ‫ال إ ّياها‬ ‫إن‬ ‫المتفرد بي�ن األمم والجماع�ات‬ ‫والمس�ار‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫بقية اإلشارات والعالمات والرموز‪ .‬والسرد يقتبس‬ ‫مهم�ا بمقدار‬ ‫وج�ود الماض�ي في قل�ب الحاض�ر يكون ّ‬ ‫على ّ‬ ‫الخيالية‪ ،‬جاع ً‬ ‫ال‬ ‫م�ن التاريخ بقدر ما يقتبس من القصص‬ ‫تحوله إلى ِعبرة للتأ ّمل‪ ،‬وتجربة داعمة للمعرفة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ش�ابكا‬ ‫تاريخية‪،‬‬ ‫قصة‬ ‫قص�ة‬ ‫التاريخي» في منطقة التخوم الفاصلة‪/‬الواصلة‬ ‫«التخيل‬ ‫يتن ّزل‬ ‫خيالية‪ ،‬أو ّ‬ ‫م�ن تاريخ الحياة ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الحقيقي للس�ير باألس�لوب‬ ‫التاريخ�ي‬ ‫أس�لوب العم�ل‬ ‫ح�رة ذابت‬ ‫الخيال�ي‬ ‫بي�ن‬ ‫والتاريخي‪ ،‬فينش�أ ف�ي منطقة ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وكون�ت تش�كي ً‬ ‫الخيالي�ة»‪ .‬ثم بانتقال الس�رد من‬ ‫الذاتية‬ ‫الروائ�ي للس�ير‬ ‫ال جديد ًا‬ ‫مكوناته�ا بعضه�ا ف�ي بع�ض‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫يش�كل‬ ‫مس�توى الف�رد إل�ى مس�توى الجماع�ة‪ ،‬وهو ما‬ ‫التاريخية‬ ‫التخي�الت‬ ‫متن�وع العناصر‪ .‬ولطالما نظ�ر إلى‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫للهو ّية‬ ‫للتخي�ل‬ ‫الع�ام‬ ‫االتّج�اه‬ ‫على أنّها منش�طرة بين صيغتي�ن كبر َيين من صيغ التعبير‪:‬‬ ‫التاريخ�ي‪ ،‬حت�ى تك�ون ُ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫األساسية‪ّ ،‬‬ ‫فكل أ ّمة أو جماعة‪،‬‬ ‫الجماعية قيمتها‬ ‫الس�رد ّية‬ ‫والذاتي�ة‪ ،‬فهي نصوص أعي�د حبك موا ّدها‬ ‫الموضوعي�ة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وه�ي تس�رد تاريخها‪ ،‬ال تس�تطيع أن تتخ ّلص من نس�يج‬ ‫األدبي‪ ،‬وانفصلت‬ ‫التاريخية‪ ،‬فامتثلت لشروط الخطاب‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ثمة‬ ‫ثم اندرجت في سياقات مجاز ّية‪،‬‬ ‫عن سياقاتها‬ ‫الحكاي�ات ح�ول ماضيها وم�زج الخي�ال بالواق�ع‪ّ .‬‬ ‫الحقيقية‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫المتخيلة‬ ‫عالق�ة متفاعلة بي�ن تاريخ األ ّم�ة والحكاي�ات‬ ‫التاريخية هو الذي يحيلها إلى ما ّدة‬ ‫فابت�كار حبكة للما ّدة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫س�رد ّية‪ .‬وم�ا الحبكة إ ّ‬ ‫ال اس�تنباط ّ‬ ‫الجماعية‪.‬‬ ‫الهو ّية السرد ّية‬ ‫مرك�ز ناظم لأحداث‬ ‫الداعمة لها‪ ،‬وعن ذلك تنتج ُ‬ ‫ّ‬ ‫ل�م يب�ق باإلم�كان قب�ول‬ ‫س�ردي‬ ‫المتناث�رة ف�ي إطار‬ ‫ّ‬ ‫التص�ورات األول�ى لوظيف�ة‬ ‫مح�دّ د المعالم‪ .‬ويتأ ّدى عن‬ ‫ّ‬ ‫التاريخي" في منطقة‬ ‫يتن ّزل "التخ ّيل‬ ‫ّ‬ ‫التاريخية» كما أش�ار‬ ‫«الرواية‬ ‫فع�ل الحب�ك‪ ،‬م�ا اصطل�ح‬ ‫ّ‬ ‫الخيالي‬ ‫التخوم الفاصلة‪/‬الواصلة بين‬ ‫ّ‬ ‫إليها جورجي زيدان وأضرابه‬ ‫ب�«الهو ّية‬ ‫عليه «بول ريكور»‬ ‫ُ‬ ‫والتاريخي‪ ،‬فينشأ في منطقة ح ّرة ذابت‬ ‫ّ‬ ‫المؤسسين لهذا النمط من‬ ‫من‬ ‫الس�رد ّية»‪ ،‬وهي البؤرة التي‬ ‫ّ‬ ‫يق�ع فيه�ا التب�ادل والتمازج مك ّوناتها بعضها في بعض‪ ،‬وك ّونت تشكي ً‬ ‫ال الكتابة‪ ،‬فقد استنفدت طاقتها‬ ‫جديداً متن ّوع العناصر‪.‬‬ ‫الوصفية بعد أن جرى تحويل‬ ‫والتقاط�ع والتش�ابك بي�ن‬ ‫ّ‬ ‫ج�ذري ف�ي طبيع�ة الكتاب�ة‬ ‫التاري�خ والخي�ال بوس�اطة‬ ‫ّ‬ ‫‪ 228‬الكوفة‪ ،‬السنة ‪ ،2‬العدد ‪ ،4‬خريف ‪2013‬‬ ‫عبداهلل ابراهيم‪ :‬ختام العدد‪/‬مدخل إلى التجربة النقدية والفكرية‬ ‫التاريخية‪ ،‬التي استحدثت لها وظائف جديدة لم‬ ‫السرد ّية‬ ‫ّ‬ ‫للتصورات‬ ‫تكن معروفة آنذاك‪ ،‬فتراجعت القيمة النقد ّية‬ ‫ّ‬ ‫الت�ي عاص�رت ظهورها ف�ي نهاية القرن التاس�ع عش�ر‪،‬‬ ‫وأصبحت غير قادرة على الوفاء بتحليل موضوعها‪ ،‬وآن‬ ‫لها أن تكون جز ًءا من الجدل الذي رافق نشأتها‪ ،‬فمكانها‬ ‫تاري�خ األن�واع الس�رد ّية‪ ،‬ويل�زم إع�ادة ط�رح المفه�وم‬ ‫التاريخي»‪،‬‬ ‫«التخيل‬ ‫بتحوالت�ه الجديدة ضمن مصطل�ح‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫للتخ ّل�ص م�ن العث�رات التي الزم�ت هذا الض�رب من‬ ‫الكتابة مدّ ة طويلة‪.‬‬ ‫السرد النسوي‬ ‫وكان ينبغي االلتفات إلى ظاهرة جديدة بدأت تستأثر‬ ‫بمكان�ة كبي�رة ف�ي الكتابة الس�ردية العربي�ة‪ ،‬قصدت بها‬ ‫«الس�رد النس�وي» الذي صيغ�ت ُهو ّيته الس�رد ّية‪ ،‬ممثّلة‬ ‫الروائ�ي‪ ،‬فيم�ا أرى‪ ،‬اس�تنا ًدا إل�ى حض�ور أحد‬ ‫بالن�وع‬ ‫ّ‬ ‫معا فيه‪ ،‬وهي‪ :‬نقد‬ ‫المكون�ات الثالثة اآلتي�ة أو اندماجها ً‬ ‫ّ‬ ‫ثم‬ ‫الثقافة األبو ّية الذكور ّي�ة‪ ،‬واقتراح رؤية أنثو ّية للعالم‪ّ ،‬‬ ‫المكونات من‬ ‫األنثوي‪ ،‬فتشابكت تلك‬ ‫االحتفاء بالجسد‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫أجل بلورة مفهوم الرواية النسو ّية بما صارت تعرف بها‪.‬‬ ‫السرد النسوي" استنادًا إلى حضور أحد‬ ‫المك ّونات الثالثة اآلتية أو اندماجها م ًعا‬ ‫فيه‪ ،‬وهي‪ :‬نقد الثقافة األبو ّية الذكور ّية‪،‬‬ ‫واقتراح رؤية أنثو ّية للعالم‪ ،‬ث ّم االحتفاء‬ ‫ّ‬ ‫األنثوي‪.‬‬ ‫بالجسد‬ ‫ويلزم التفريق بين كتابة النساء‪ ،‬والكتابة النسو ّية‪ ،‬فاألولى‬ ‫فرضي�ة الرؤية األنثو ّية للعالم وللذات إ ّ‬ ‫ال‬ ‫تتم بمنأى عن‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫يتس�رب منها دون قصد‪ ،‬وقد تماثل كتابة الرجال في‬ ‫بما‬ ‫ّ‬ ‫فتتقصد التعبير‬ ‫الموضوع�ات والقضايا العا ّمة‪ ،‬أ ّما الثانية‬ ‫ّ‬ ‫ع�ن حال الم�رأة‪ ،‬اس�تناد ًا إلى تل�ك الرؤية ف�ي معاينتها‬ ‫وأخيرا‬ ‫ث�م نقد الثقافة األبو ّية الس�ائدة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫لل�ذات وللعالم‪ّ ،‬‬ ‫يتم‬ ‫اعتبار جس�د المرأة ّ‬ ‫مكون ًا جوهر ّي ًا في الكتابة‪ ،‬بحيث ّ‬ ‫ّ‬ ‫فرضياته‬ ‫النس�وي‪ ،‬ويس�تفيد من‬ ‫كل ذلك في إطار الفكر‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وتصوراته ومقوالته‪ ،‬ويسعى إلى بلورة مفاهيم أنثو ّية من‬ ‫ّ‬ ‫األبوي بفضح عجزه‪.‬‬ ‫خالل السرد‪ ،‬وتفكيك النظام‬ ‫ّ‬ ‫العربي الحديث صع�ود ًا الفت�ا للرواية‬ ‫ش�هد الس�رد‬ ‫ّ‬ ‫النسو ّية‪ ،‬ولم يحصل ذلك في معزل عن المكانة المتنامية‬ ‫والثقافية‪ ،‬فقد جاء‪ ،‬فض ً‬ ‫ال‬ ‫االجتماعي�ة‬ ‫للم�رأة في الحياة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫عن ّ‬ ‫األنثوي الذي عرف َطوال‬ ‫كل ذلك‪ ،‬استجابة للوعي‬ ‫ّ‬ ‫التاريخ اس�تبعاد ًا ال يمكن تجاهله‪ ،‬وتمييز ًا ضدّ ه يصعب‬ ‫العربي�ة القديمة‪،‬‬ ‫إغفال�ه في المج�االت كا ّفة؛ ف�اآلداب‬ ‫ّ‬ ‫شعر ّية وسرد ّية‪ ،‬كانت تموج بصور المرأة‪-‬الجارية‪ ،‬التي‬ ‫اقتص�ر دورها عل�ى تقديم المتعة للرج�ل‪ ،‬فهي موضوع‬ ‫ّ‬ ‫للذت�ه‪ .‬وندر أن ج�رى االهتمام بها خارج ه�ذه الوظيفة‬ ‫النمطية الموروثة‪ ،‬وق�د تغلغلت الرؤية األبو ّية الذكور ّية‬ ‫ّ‬ ‫العرب�ي‪ ،‬وصاغت دالالته الكبرى‪ ،‬وفيه‬ ‫في ما ّدة األدب‬ ‫ّ‬ ‫ظهرت عالقة المرأة بالرجل بوصفها عالقة تابع بمتبوع‪،‬‬ ‫أنثوي ّ‬ ‫وكل ذلك ّ‬ ‫ّ‬ ‫يمكن الثقافة‪ ،‬ومنها‬ ‫عطل ظهور وع�ي‬ ‫ّ‬ ‫تس�تقر عل�ى أس�س متوازن�ة ومتفاعل�ة‪ .‬وال‬ ‫األدب‪ ،‬أن‬ ‫ّ‬ ‫يس�تقيم ذلك إ ّ‬ ‫ّ‬ ‫بتخطي هيمنة الرؤي�ة الذكور ّية للعالم‪،‬‬ ‫ال‬ ‫وقب�ول الرؤي�ة األنثو ّية بوصفها رؤية مش�اركة‪ ،‬وليس�ت‬ ‫الكوفة‪ ،‬السنة ‪ ،2‬العدد ‪ ،4‬خريف ‪229 2013‬‬ ‫ّ‬ ‫محكمة‬ ‫الكوفة‪ :‬مجلة فصلية‬ ‫تابعة‪.‬‬ ‫يمك�ن إدراج الس�رود النس�وية ف�ي س�ياق نص�وص‬ ‫المتعة‪ ،‬تل�ك النصوص التي تزعزع معتق�دات المتل ّقي‪،‬‬ ‫تخربها‪ ،‬فتخ ّلف لديه إحساس� ًا بأن�ه يقرأ نصوص ًا‬ ‫وربم�ا ّ‬ ‫تخي�الت موروثة ع�ن العالم‬ ‫ال تنس�جم وم�ا عهده م�ن ّ‬ ‫وتبرم� ًا به‪ ،‬وبكل‬ ‫ال�ذي يعي�ش فيه‪ ،‬فهي تضمر نق�د ًا له‪ّ ،‬‬ ‫ذلك تس�تبدل رغبة في حري�ات فرد ّية مغاي�رة للحريات‬ ‫الجماعي�ة المبهم�ة الت�ي تواط�أ عليه�ا اآلخ�رون‪ .‬إل�ى‬ ‫ذل�ك تقوم بتمثيل تجارب نس�وية ال تعرف الوالء‪ ،‬وفيها‬ ‫م�ن الخ�روج عل�ى األع�راف أكثر م�ا فيها م�ن االمتثال‬ ‫محرم�ة‪ ،‬و ُتح�دث قلق ًا‬ ‫له�ا‪،‬‬ ‫فتتح�رك ف�ي مناط�ق ش�به ّ‬ ‫ّ‬ ‫ف�ي االنس�جام المجتمع�ي‪ ،‬ألنه�ا تريد أن تقط�ع صلتها‬ ‫ّ‬ ‫تش�ك ف�ي كفاءت�ه وج�دواه‪ ،‬وه�ي‬ ‫بالم�وروث حينم�ا‬ ‫بمجموعها تختلف عن الكتابة الباعثة على االرتياح التي‬ ‫تس�تجيب لتو ّقعات المتل ّقي‪ ،‬وتشبع رغباته‪ ،‬وتتوافق مع‬ ‫األعراف الس�ائدة‪ .‬براعة الس�رود النس�وية فيما تترك من‬ ‫أسئلة ال ما تخ ّلف من استرخاء‪.‬‬ ‫السرد واالعتراف والهوية‬ ‫وراف�ق َّ‬ ‫بالمكون الذاتي في الس�رد‬ ‫اهتم�ام‬ ‫كل ذل�ك‬ ‫ٌ‬ ‫ّ‬ ‫العرب�ي الحدي�ث‪ ،‬وصلت�ه بالهوي�ة‪ ،‬ف�كان أن حضرت‬ ‫بالهو ّي�ة‪ ،‬س�واء‬ ‫س�رديات االعت�راف الت�ي تقت�رن غالب� ًا ُ‬ ‫جماعية‪ ،‬ف�ال يمكن انتزاع الكاتب‬ ‫أكان�ت ُهو ّية فرد ّية أم‬ ‫ّ‬ ‫االجتماعية التي يش�تبك به�ا؛ ذلك ّ‬ ‫أن أدبه‬ ‫م�ن الحاضنة‬ ‫ّ‬ ‫بمهمة تمثيلها‪ ،‬وبيان موقعه فيها‪ ،‬فال يطرح موضوع‬ ‫يقوم ّ‬ ‫الهو ّية في الس�رد‪ ،‬واالعتراف به�ا‪ ،‬إ ّ‬ ‫خلفية ّ‬ ‫مركبة‬ ‫ال على‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫‪ 230‬الكوفة‪ ،‬السنة ‪ ،2‬العدد ‪ ،4‬خريف ‪2013‬‬ ‫والجماعية‪ ،‬وتبادل المواقع فيما‬ ‫الش�خصية‬ ‫من األس�ئلة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ثقافي‪ ،‬وتج�د كا ّفة‬ ‫بينهم�ا؛ فالكات�ب منبث�ق م�ن س�ياق‬ ‫ّ‬ ‫اإلش�كاليات المثارة في مجتمعه درجة من الحضور في‬ ‫ّ‬ ‫مدونته السرد ّية‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫لكن سرديات االعتراف محاطة بشبهة وهي موضوع‬ ‫ّ‬ ‫ارتي�اب؛ ّ‬ ‫يتم�رس في قب�ول الحقائق‬ ‫ألن الجمه�ور ل�م‬ ‫ّ‬ ‫الس�رد ّية‪ ،‬في�رى في جرأة الكاتب على كش�ف المس�تور‬ ‫س�لوك ًا غي�ر مقب�ول‪ ،‬وإفراط� ًا ف�ي فض�ح المجه�ول‪،‬‬ ‫فاالعت�راف مح�اط بكثي�ر م�ن ض�روب الح�ذر ف�ي‬ ‫تتخيل أنّها بال أخطاء‪ ،‬وتتحاش�ى ذكر‬ ‫مجتمعات تقليد ّية ّ‬ ‫تطهرت من اآلثام التي واظبت على‬ ‫عيوبها‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وتتوهم أنّها ّ‬ ‫اقترافه�ا مجتمع�ات أخ�رى‪ ،‬فتدفع المخ�اوف كثير ًا من‬ ‫اس�ترضائية لمجتمعاتهم‪،‬‬ ‫الك ّت�اب إلى اختالق تواري�خ‬ ‫ّ‬ ‫نقي�ة لذواته�م‪ ،‬متج ّنبين كش�ف المناطق‬ ‫وابت�كار صور ّ‬ ‫الس�ر ّية ف�ي تجاربه�م‪ ،‬وإظه�ار المس�كوت علي�ه ف�ي‬ ‫ّ‬ ‫عما ينبغ�ي عليهم قول�ه أو ز ّيفوا‬ ‫مجتمعاته�م‪ ،‬فصمت�وا ّ‬ ‫في�ه‪ ،‬ور ّبما أنك�روا وقوعه‪ ،‬يريدون بذل�ك الحفاظ على‬ ‫الصور الش ّفافة لهم ولمجتمعاتهم‪.‬‬ ‫وق�د أفضى ذلك إلى ظهور س�رود تهرب من كش�ف‬ ‫الحميمية‪ ،‬وتلوذ بالقضايا المش�تركة بين‬ ‫الذاتية‬ ‫البطان�ة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫اني‬ ‫الجمي�ع‪ّ ،‬‬ ‫فثم�ة إحجام عن التركي�ز على البع�د ّ‬ ‫الجو ّ‬ ‫أهمية في أدب‬ ‫للش�خصيات‪ ،‬حيث تقبع الم�ا ّدة األكث�ر ّ‬ ‫ّ‬ ‫االعت�راف‪ ،‬فل�م ْ‬ ‫العربي‬ ‫أدب االعتراف ف�ي األدب‬ ‫ي�زل ُ‬ ‫ّ‬ ‫مدونة فضائح‪،‬‬ ‫يتل ّقى إ ّما بوصفه جمل َة أسرار‪ ،‬أو على أنّه ّ‬ ‫والق�راء على حدّ س�واء‪،‬‬ ‫الظ�ن يتر ّب�ص بالك ّتاب‬ ‫فس�وء‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وال غراب�ة أن نج�د ن�درة في�ه‪ ،‬ال يقبل الب�وح بالجوانب‬ ‫عبداهلل ابراهيم‪ :‬ختام العدد‪/‬مدخل إلى التجربة النقدية والفكرية‬ ‫عدم ّ‬ ‫التنك�ر لأخطاء التي انزلق�وا إليها في وقت مضى‪،‬‬ ‫الع�ام‪ .‬إذ‬ ‫الش�خصية‪ ،‬وال ب�اآلراء المخالف�ة لإلجم�اع‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫أيدلوجية‪ ،‬فهم يري�دون تنقية‬ ‫ش�خصية أم‬ ‫س�واء أكان�ت‬ ‫الضمن�ي من المتل ّقين رغب�ة في الصمت‬ ‫يعم�ق الخوف‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫انية حتى لو اقتضى ذلك البوح باألس�رار‬ ‫ل�دى الكاتب‪ ،‬فيتج ّنب ذكر الوقائ�ع غير المقبولة‪ ،‬وهذا‬ ‫صوره�م ّ‬ ‫الجو ّ‬ ‫الخاصة وباألخطاء‪.‬‬ ‫العام‪،‬‬ ‫يطمر في طياته تزييف ًا للتاريخ‬ ‫ّ‬ ‫الش�خصي وللتاريخ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ويجع�ل م�ن خ�داع ال�ذات واآلخري�ن س�لوك ًا مقب�و ً‬ ‫ولي�س م�ن المفي�د أن يأت�ي االعت�راف منقطع� ًا عن‬ ‫ال‬ ‫السياق الحاضن له‪ ،‬وإ ّ‬ ‫المهم�ة‪ ،‬أو يقع ّ‬ ‫تخطيها‪ّ ،‬‬ ‫ال أصبح فضيحة‪ ،‬فالقارئ يبحث‬ ‫وكل‬ ‫وش�ائع ًا‪ ،‬فتتوارى الوقائع‬ ‫ّ‬ ‫ويهم�ه أن يتع ّل�ق بحادث�ة مثيرة‪ ،‬أ ّم�ا الكاتب‬ ‫هذا يتع�ارض مع وظيف�ة أدب االعتراف الذي يس�تبطن‬ ‫ع�ن ذروة‪ّ ،‬‬ ‫التحوالت الفكر ّية والجسد ّية‪،‬‬ ‫فمشغول بسياق كامل من‬ ‫ثم المجتمعات‬ ‫المناط�ق‬ ‫ّ‬ ‫المخفية من حياة األش�خاص‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫وهو ما ّ‬ ‫يشكل صيرورة ُهو ّيته‪ ،‬وحينما يعيد تركيب تاريخ‬ ‫بعد ذلك‪.‬‬ ‫الطبيعي أن يدرج األحداث‬ ‫السردي‪ ،‬فمن‬ ‫حياته بالتمثيل‬ ‫المسؤولية المباشرة‬ ‫أدب االعتراف الكاتب أمام‬ ‫ّ‬ ‫يضع ُ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫العام‪ّ ،‬‬ ‫خاص لنفسه ولمجتمعه وللعالم الذي‬ ‫في س�ياق منظور‬ ‫ألن االعتراف بذاته يقع في المنطقة‬ ‫ّ‬ ‫لص ّناع ال�رأي ّ‬ ‫يعيش فيه‪ .‬ومن الخطأ انتقاء لحظة عابرة وتركيز االهتمام‬ ‫المتوتّ�رة بين رغبة الجمهور في براءة المش�اهير‪ ،‬ورغبة‬ ‫عليه�ا في منأى عن الس�ياق الحاضن له�ا‪ ،‬فذلك انتهاك‬ ‫مما لحق بهم م�ن أخطاء اقترفوها عن‬ ‫ه�ؤالء في‬ ‫ّ‬ ‫التطهر ّ‬ ‫مقص�ود يهدف إل�ى تخريب فكرة االعت�راف‪ ،‬والترويج‬ ‫قص�د أو غير قص�د خالل حياته�م‪ .‬ويحول التن�ازع بين‬ ‫أيدلوجي ًا القارئ الذي يقوم بذلك‪ّ .‬‬ ‫إن‬ ‫معينة توافق‬ ‫والداخلية للكاتب دون االتفاق على‬ ‫الخارجي�ة‬ ‫الصورة‬ ‫ّ‬ ‫لغاي�ة ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ٍّ‬ ‫ٍ‬ ‫لالعت�راف قيمة تفوق كثير ًا قيمة الصمت أو التزوير‪ ،‬وال‬ ‫األدبي يص�اب بخيبة‬ ‫م�رض للطرفين‪ ،‬فالجمه�ور‬ ‫ح�ل‬ ‫ّ‬ ‫ب�دَّ أن يمن�ح المعترفون فرصتهم لقول م�ا يريدون قوله‪.‬‬ ‫أم�ل حينما يع�رض الكات�ب اعتراف ًا صريح ًا ع�ن حياته‪،‬‬ ‫وأف�كاره‪ ،‬ومعتقدات�ه؛ ّ‬ ‫وتج ّن�ب الخ�داع واصطناع‬ ‫ألن‬ ‫أدب االعتراف الكاتب أمام المسؤول ّية التواري�خ المز ّيف�ة‪ ،‬فإع�ادة‬ ‫الص�ورة‬ ‫النمطي�ة للكات�ب‪ ،‬يضع ُ‬ ‫ّ‬ ‫بالهو ّي�ة‪ ،‬كائن�ة ما‬ ‫ألن االعتراف التعري�ف ُ‬ ‫وكثير منها من نس�ج الخيال‪ ،‬المباشرة لص ّناع الرأي العا ّم‪ّ ،‬‬ ‫كان�ت‪ ،‬يف�وق أم�ر تعريفه�ا‬ ‫تخرب ف�ي بع�ض أجزائها‪ .‬بذاته يقع في المنطقة المتو ّترة بين رغبة‬ ‫ّ‬ ‫االبتدائي‪.‬‬ ‫وه�ذا تعبير عن رغب�ة يبديها الجمهور في براءة المشاهير‪ ،‬ورغبة هؤالء‬ ‫ّ‬ ‫متل ّقون ينتظ�رون نقاء مطل ًق ًا‬ ‫مما لحق بهم من أخطاء‬ ‫في التطهّر ّ‬ ‫دون أن ّ‬ ‫السرد والمنفى‬ ‫يفك�روا ف�ي نقائه�م‬ ‫اقترفوها عن قصد أو غير قصد خالل‬ ‫ول�م يك�ن م�ن المت�اح‬ ‫الخ�اص‪ ،‬وبمقاب�ل ذل�ك‬ ‫ّ‬ ‫حياتهم‪.‬‬ ‫صرف النظر عن صلة السرد‬ ‫يحرص بع�ض الك ّتاب على‬ ‫الكوفة‪ ،‬السنة ‪ ،2‬العدد ‪ ،4‬خريف ‪231 2013‬‬ ‫ّ‬ ‫محكمة‬ ‫الكوفة‪ :‬مجلة فصلية‬ ‫العربي الحديث بالمنفى‪ ،‬الذي هو تجربة نفس�ية وفكرية‬ ‫ومكاني�ة ترك�ت بصماتها في�ه‪ ،‬فلزم معالجتها في س�ياق‬ ‫دراسة السردية العربية الحديثة‪ ،‬فالمن َفى ليس بقعة غريبة‬ ‫وحس�ب‪ ،‬إنم�ا هو م�كان يتع�ذر في�ه ممارس�ة االنتماء‪.‬‬ ‫يخ�رب المن َفى ق�درة االنتماء‪ ،‬ويح�ول دون ظهور تلك‬ ‫ّ‬ ‫الفك�رة البراق�ة الت�ي تجت�ذب اإلنس�ان‪ .‬ولطالم�ا وق�ع‬ ‫ِ‬ ‫المنف ّي والمكان الذي ُر ّحل‪/‬‬ ‫تعارض‪ ،‬بل انفصام‪ ،‬بي�ن‬ ‫ارتحل إليه‪ ،‬وندر أن تك ّللت محاوالت المنفيين بالنجاح‬ ‫ف�ي إع�ادة تش�كيل ذواته�م حس�ب مقتضي�ات المنف�ى‬ ‫ِ‬ ‫من اقتلع من الم�كان الذي ولد‬ ‫وش�روطه‪.‬‬ ‫�ي هو ْ‬ ‫والمنف ّ‬ ‫في�ه‪ ،‬وأخفق ف�ي مدّ جس�ور االندماج مع الم�كان الذي‬ ‫أصب�ح فيه‪ ،‬فحياته متوترة‪ ،‬ومصي�ره ملتبس‪ ،‬وهو يتآكل‬ ‫ليتوهج‪،‬‬ ‫باستمرار‪ ،‬وال يلبث أن ينطفئ بالمعنى المباشر‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫المنف ّي ذات بش�رية واعية‬ ‫مرة أخ�رى‪ ،‬بالمعنى الرمزي‪.‬‬ ‫لكنها ممزقة‪ُ ،‬هتكت عذريتها‪ُ ،‬‬ ‫وخ ّربت سو ّيتها الطبيعية‪،‬‬ ‫فال س�بيل إل�ى إعادة تش�كيلها ف�ي كينونة منس�جمة مع‬ ‫نفسها أو مع العالم‪.‬‬ ‫ولطالما اتّقد المنفيون حماسة أول عهدهم بالمنافي‪،‬‬ ‫إنم�ا ل�م يعوا أنه�م رموا في منطق�ة مبهمة ال تخ�وم لها‪،‬‬ ‫فم�ن اخت�ار المنف�ى راودت�ه اآلم�ال الع�راض إلج�راء‬ ‫تحوي�ل ج�ذري في نم�ط حيات�ه‪ ،‬واختيارات�ه‪ ،‬ومن ُدفع‬ ‫إليه قس�ر ًا وجده ضرب ًا من االنتقام الفظيع الذي ال س�بيل‬ ‫إل�ى االقتص�اص من�ه‪ ،‬لك�ن المعرف�ة بالمنفى س�رعان‬ ‫م�ا تراكمت ف�ي العصور الحديث�ة‪ ،‬وارتس�مت معالمها‬ ‫الثقافي�ة‪ ،‬ف�راودت بع�ض المنفيي�ن أحالم وردي�ة بعالم‬ ‫جديد ينبثق من أحشاء عالم عتيق ال يقبل االختالف‪ ،‬وال‬ ‫‪ 232‬الكوفة‪ ،‬السنة ‪ ،2‬العدد ‪ ،4‬خريف ‪2013‬‬ ‫يعترف بالمغايرة‪ ،‬وال يو ّفر أسباب الشراكة في الحقوق‪،‬‬ ‫تأخ�رت‪ ،‬وحينما ظه�ر أخير ًا‬ ‫تعس�رت‪ ،‬ثم ّ‬ ‫لك�ن والدته ّ‬ ‫جاء هشّ ًا ال طاقة له بقبول الغرباء‪ ،‬وحمايتهم‪ ،‬ناهيك عن‬ ‫الدف�اع عنهم‪ ،‬فكان من المنفيين م�ن قبل التواطؤ فوجد‬ ‫في�ه خالص ًا مؤ ّقت ًا لمحو التج�ارب المريرة التي ذاقها في‬ ‫وطنه‪ ،‬وفيهم من وقع أس�ير اإلغ�راءات المذهلة للعزلة‪،‬‬ ‫ومنه�م م�ن أراد االكتف�اء بتحس�ين أحوال�ه‪ ،‬أو خ�وض‬ ‫مغامرة‪ ،‬أو مالمس�ة عالم آخر‪ ،‬لكن مجمل هذه الدوافع‬ ‫المتداخلة ما لبثت أن غدت جزء ًا من اإلس�تراتيجية التي‬ ‫يمارس�ها المنفى ض�دّ من ينتس�ب إليه‪ ،‬وه�ي االنغالق‬ ‫على م�ن يكون في�ه‪ ،‬ووضعه تح�ت طائلة انتظ�ار دائم‪،‬‬ ‫فانتهى األمر بالمنفيي�ن إلى غير ما صبوا إليه‪ ،‬فقد أصبح‬ ‫عما كان ُيتو ّقع منه‪ ،‬لمن‬ ‫المنف�ى اختيار ًا غامض ًا يختل�ف ّ‬ ‫أراده أو ُأجبر عليه‪ّ ،‬‬ ‫مركب‬ ‫فتمخض عن كل ذلك ش�عور ّ‬ ‫م�ن اآلم�ال واإلخفاق�ات‪ ،‬ومن اإلق�دام والت�ر ّدد‪ ،‬ومن‬ ‫االندماج والعزلة‪ ،‬وم�ن االطمئنان والخوف‪ ،‬ومن النبذ‬ ‫البراقة التي اجتذبت‬ ‫واالشتياق‪ ،‬فكان أن تالشت الفكرة ّ‬ ‫المنفيين للعيش في عالم آمن يخلو من مخاوف األوطان‪،‬‬ ‫إذ نشأت غيرها في المكان الجديد‪ ،‬وسواء تعايش المرء‬ ‫مع هذه أو تلك‪ ،‬فإن إحساسه المريع بفقدان مكانه أورثه‬ ‫المن ِف ّي ذات بشرية واعية لكنها ممزقة‪،‬‬ ‫ُهتكت عذريتها‪ُ ،‬‬ ‫وخ ّربت سو ّيتها الطبيعية‪،‬‬ ‫فال سبيل إلى إعادة تشكيلها في كينونة‬ ‫منسجمة مع نفسها أو مع العالم‪.‬‬ ‫عبداهلل ابراهيم‪ :‬ختام العدد‪/‬مدخل إلى التجربة النقدية والفكرية‬ ‫ّ‬ ‫شك ًا في أنه خارج الدائرة الحميمة لالنتماء البشري‪.‬‬ ‫وتأ ّدى عن ذلك ضرب من الكتابة‪ ،‬هي كتابة المن َفى‪،‬‬ ‫وف�ي ال ّل�ب منه�ا س�رديات المن َف�ى‪ ،‬ومادته�ا مزيج من‬ ‫االغت�راب والنف�ور؛ ألنه�ا ت�راوح ف�ي منطق�ة االنتم�اء‬ ‫الم�زدوج إل�ى هويتين متباينتي�ن‪ ،‬ثم‪ ،‬في الوقت نفس�ه‪،‬‬ ‫ع�دم إمكاني�ة االنتم�اء ألي منهم�ا‪ ،‬لكنه�ا كتابة كاش�فة‬ ‫تق�وم على فرضي�ة تفكيك الهوية الواح�دة وتقترح هوية‬ ‫رمادي�ة ّ‬ ‫مركب�ة من عناصر كثيرة‪ ،‬وبه�ذه الصفة تعدّ كتابة‬ ‫المنفى عابرة للح�دود الثقافية‪ ،‬والجغرافية‪ ،‬والتاريخية‪،‬‬ ‫والديني�ة‪ ،‬وه�ي تخف�ي ف�ي طياته�ا إش�كالية خالفي�ة‪،‬‬ ‫كونه�ا تتش�كل عب�ر رؤية ناف�ذة‪ ،‬ومنظور ح�اد ال يعرف‬ ‫التواطؤ‪ ،‬فكتابة المنفى تتعالى على التس�طيح‪ ،‬وتتضمن‬ ‫قس�وة صريحة من التش�ريح المباش�ر ألوض�اع المنفي‪،‬‬ ‫وعل�ى ح�دٍّ س�واء‪ ،‬لكل م�ن الجماع�ة التي اقتل�ع منها‪،‬‬ ‫والجماعة الحاضنة له‪ ،‬لكنها تنأى بنفسها عن الكراهية‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وتتخطى الموضوع�ات الجاهزة‪،‬‬ ‫والتعص�ب‪ ،‬والغل�و‪،‬‬ ‫واألف�كار النمطي�ة‪ ،‬وتع�رض ش�خصيات منهمك�ة ف�ي‬ ‫قطيعة مع الجماع�ة التقليدية‪ ،‬وتنبض برؤية ترتد صوب‬ ‫مناط�ق مجهول�ة داخ�ل النفس اإلنس�انية‪ .‬وتتس�م كتابة‬ ‫المنفى‪ ،‬فض ً‬ ‫ال عن كل ذلك‪ ،‬بالقلق الوجودي‪ ،‬ويسكنها‬ ‫الح�راك‪ ،‬واالنش�قاقية‪ ،‬والس�خط‪ ،‬وفيها تعوم األس�ئلة‬ ‫الكب�رى‪ ،‬وه�ي مدونة قاس�ية تتمث�ل فيها مصائر البش�ر‬ ‫حينما تدفعهم نوازع العنف األعمى إلى تمزيق شملهم‪،‬‬ ‫فيلوذون بأماكن بديلة بحث ًا عن آمان خادع‪.‬‬ ‫وق�د آن األوان لتنش�يط ج�دل ثقاف�ي ينته�ي بإحالل‬ ‫عب�ارة «كتاب�ة الم ْن َفى» مح�ل عبارة «كتاب�ة المهجر» ألن‬ ‫الثاني�ة تخلو م�ن المحمول الذي ج�رى وصفه من قبل‪،‬‬ ‫فيم�ا األولى مش�بعة به‪ ،‬فهو ّ‬ ‫يترش�ح منها حيثما درس�ت‬ ‫مس�توياته الداللية‪ ،‬ووقع تأويله‪ ،‬وعليه ف�«أدب الم ْن َفى»‬ ‫يختلف عن «أدب المهجر» اختالف ًا واضح ًا‪ ،‬كون األخير‬ ‫حبس نفسه في الداللة الجغرافية‪ ،‬فيما انفتح األول على‬ ‫ِ‬ ‫المنف ّي ف�ي العالم الذي‬ ‫س�ائر القضاي�ا المتصلة بموق�ع‬ ‫أصبح فيه دون أن تغيب عنه قضايا العالم الذي غادره‪.‬‬ ‫الممارسة الفكرية‬ ‫في وقت مبكر ومتزامن مع االهتمام بالس�رد األدبي‪،‬‬ ‫المعرفية الحديثة في الثقافتين‬ ‫اتجه اهتمامي إلى المنظومة‬ ‫ّ‬ ‫الفلسفية‬ ‫والغربية‪ ،‬وشمل ذلك االهتمام الجوانب‬ ‫العربية‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫واالجتماعية والديني�ة‪ ،‬ومن الطبيعي أن تثير‬ ‫والتاريخي�ة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫اهتمامي العالقة الملتبس�ة‪ ،‬م�ن ناحية التأثر والتأثير‪ ،‬بين‬ ‫والعربية‪ ،‬ألنها حدّ دت أنظمة التفكير في‬ ‫الغربية‬ ‫الثقافتين‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ثقافتن�ا الحديث�ة‪ ،‬وعولجت بمنظورات مختلف�ة‪ ،‬وغالب ًا‬ ‫وتبين أن اتجاه ًا واحد ًا حكم تلك المنظومات‬ ‫متناقضة‪ّ .‬‬ ‫الغربية‪،‬‬ ‫بش�كل عام‪ ،‬ومؤ ّداه التطابق مع معطيات الثقافة‬ ‫ّ‬ ‫وهو في حقيقته ال يختلف عن االتجاه اآلخر الذي يقول‬ ‫بالتطابق مع الماض�ي ومرجعياته‪ .‬ومن هنا انبثقت فكرة‬ ‫«االختالف» عن االتجاهين‪ُ .‬طرحت فكرة «االختالف»‬ ‫ً‬ ‫بدي�ال ع�ن فك�رة «المطابق�ة» م�ع «اآلخ�ر»‬ ‫بوصفه�ا‬ ‫المتمركز حول ذاته‪ ،‬و«الذات» المنكفئة على نفس�ها في‬ ‫اتجاه يفضي إلى الماضي ويحاكي معطياته‪ ،‬وقد ظهرت‬ ‫الفكرة بس�بب المراجعة التي اعتم�دت المنظور النقدي‬ ‫لمعطي�ات الثقافة العربي�ة الحديثة‪ .‬وعلى ه�ذا‪ّ ،‬‬ ‫فإن نقد‬ ‫الكوفة‪ ،‬السنة ‪ ،2‬العدد ‪ ،4‬خريف ‪233 2013‬‬ ‫ّ‬ ‫محكمة‬ ‫الكوفة‪ :‬مجلة فصلية‬ ‫ال�ذات ونقد اآلخر أمر فرضته حالة االلتباس من جانب‪،‬‬ ‫وحالة االمتثال لآلخر من جانب آخر‪.‬‬ ‫تقص�ي أبع�اد تلك الفك�رة ف�ي جذورها‬ ‫وم�ن أج�ل ّ‬ ‫الثقافي�ة‪ ،‬صرف�ت اهتمام�ي إل�ى نق�د التمرك�ز الغرب�ي‬ ‫واإلس�المي على حد س�واء‪ ،‬وكش�ف ظروف�ه التاريخية‬ ‫ونق�د الثقاف�ة العربي�ة االمتثالي�ة‪ ،‬وفي ذلك س�عيت إلى‬ ‫دم�ج منظوري�ن متالزمي�ن هم�ا‪ :‬المنظ�ور التاريخ�ي‬ ‫والمنظ�ور النق�دي؛ األول لكش�ف مالبس�ات ظ�روف‬ ‫ّ‬ ‫وتش�كالته‪ ،‬والثاني لفضح اقصاءاته واختزاالته‬ ‫التمركز‬ ‫ً‬ ‫حريص�ا على تحليل الظروف الثقافية‬ ‫ل�(اآلخر)‪ ،‬وكنت‬ ‫واالجتماعية والسياسية والتاريخية لظاهرة التمركز حول‬ ‫ال�ذات‪ ،‬ألن تل�ك الظاه�رة اصطنعت لها تاريخ� ًا يوافق‬ ‫رؤيتها لنفس�ها وللعالم‪ .‬وكنت أتطلع إلى نقد تعارضات‬ ‫الفكر المتمركز حول نفسه‪ ،‬وتعرية ممارساته اإلقصائية‪،‬‬ ‫على ّ‬ ‫يتم بمعزل عن واقع الثقافة العربية‬ ‫أن ذلك النقد لم َّ‬ ‫الحديثة‪ ،‬التي أراه�ا ثقافة والئية‪ ،‬يتجاذبها قطبان‪ :‬قطب‬ ‫يمث�ل الغ�رب بمركزيت�ه الثقافية‪ ،‬وقطب يمث�ل النموذج‬ ‫دينية تجاوزها الواقع‪.‬‬ ‫الفكري المتصل بتجربة تاريخية‪ّ -‬‬ ‫ووس�ط هذا التجاذب العنيف تحولت الثقافة العربية إلى‬ ‫«ثقاف�ة مطابقة»‪ ،‬ألنه�ا في جانب منه�ا تتطابق مع اآلخر‬ ‫رؤي�ة ومنهجا‪ ،‬فتحاكيه في منظوراته ومفاهيمه وأهدافه‪،‬‬ ‫الس�ياقية بينهما‪ .‬وفي‬ ‫دون األخ�ذ باالعتبار االختالفات‬ ‫ّ‬ ‫جانب آخر تتطابق مع الماضي ونموذجه الالهوتي‪ ،‬فتقع‬ ‫في أس�ر س�حره الخاص‪ ،‬وجاذبيته الش�فافة بفعل تقادم‬ ‫الزمن‪ ،‬وذوبان الزخم التاريخي المرافق له‪.‬‬ ‫في الم�رة األولى تماهت الثقافة العربية مع «اآلخر»‪،‬‬ ‫‪ 234‬الكوفة‪ ،‬السنة ‪ ،2‬العدد ‪ ،4‬خريف ‪2013‬‬ ‫وف�ي الم�رة الثاني�ة اعتصم�ت ب�«ال�ذات» ف�ي ن�وع من‬ ‫التمرك�ز الذات�ي المنكف�ئ عل�ى نفس�ه‪ ،‬بحث ًا ع�ن أصل‬ ‫يمك�ن االتصال ب�ه دون مراعاة عام�ل الزمن‪ ،‬فما يحكم‬ ‫واق�ع الثقاف�ة العربي�ة الحديث�ة من�ذ عص�ر النهض�ة إلى‬ ‫اآلن‪ ،‬إنما ه�و نوعان من «المطابقة» مطابقة اآلخر‪ ،‬وهو‬ ‫اغت�راب في المكان‪ ،‬ومطابقة الماضي‪ ،‬وهو اغتراب في‬ ‫الزمان‪ .‬ولهذا ّ‬ ‫فإن دعوة ل�«االختالف» عن االثنين‪ ،‬دون‬ ‫ملحة تفرضها حالة التوتّر‬ ‫االنقط�اع عنهما‪ ،‬تصبح حاجة ّ‬ ‫العربية الحديثة وحسب‪ ،‬إنما‬ ‫الذي لم يمزق نسيج الثقافة‬ ‫ّ‬ ‫بالتك�ون على نحو طبيعي‪ ،‬فثم�ة انهيارات‬ ‫لم يس�مح له‬ ‫ّ‬ ‫عميق�ة‪ ،‬وردود فعل مفاجئة ومباغتة‪ ،‬ورغبة مزدوجة في‬ ‫التحدي�ث والتخ ّل�ف‪ ،‬وممارس�ات متعارضة‪ ،‬وانقس�ام‬ ‫وثقافية‬ ‫وطائفي�ة‬ ‫وديني�ة‬ ‫عرقي�ة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ف�ي الوعي‪ ،‬وتش�نجات ّ‬ ‫وسياس�ية واقتصادي�ة‪ ،‬ال س�بيل إل�ى ح ّله�ا‪ ،‬فاالنتم�اء‬ ‫ّ‬ ‫خرب كل ش�يء‪ ،‬وال بد‬ ‫العقل�ي الم�زدوج إلى ّ‬ ‫قطبي�ن‪ّ ،‬‬ ‫م�ن إدراج كل تل�ك الظواه�ر ومس�بباتها ضم�ن منظور‬ ‫ّ‬ ‫ولعل أهم تلك األسباب‪،‬‬ ‫الحقيقية‪.‬‬ ‫يستكش�ف أس�بابها‬ ‫ّ‬ ‫دون أن تك�ون الوحيدة‪ ،‬هو ما أس�ميناه «المطابقة» بكل‬ ‫الخفية ونتائجه�ا‪ ،‬وإزاء كل ذلك‬ ‫مالبس�اتها واتصاالتها‬ ‫ّ‬ ‫ال بد من وضع مس�افة‪ّ ،‬‬ ‫تمكن من ممارس�ة نقدها لنفسها‬ ‫ولغيره�ا‪ ،‬مس�افة تفصل الذات فص ً‬ ‫ال رمزي� ًا عن ماضيها‬ ‫ال�ذي مضى‪ ،‬وعن اآلخر الذي له س�ياقات ثقافية خاصة‬ ‫به‪ .‬تلك المس�افات الطبيعي�ة والضرورية هي أول خطوة‬ ‫يح�ول االنتماء األعم�ى المزدوج‬ ‫ل�«االخت�الف» الذي ّ‬ ‫إل�ى ن�وع م�ن الح�وار والتفاع�ل والتمثّ�ل واالختالف‪،‬‬ ‫وليس التماهي واالندماج والتطابق‪.‬‬ ‫عبداهلل ابراهيم‪ :‬ختام العدد‪/‬مدخل إلى التجربة النقدية والفكرية‬ ‫المركزية الغربية‬ ‫ضم�ن ه�ذا التص�ور ين�درج حديث�ي ع�ن «المطابقة‬ ‫واالخت�الف»‪ .‬وم�ن الواض�ح ّ‬ ‫أن الج�زء األول م�ن‬ ‫الغربي�ة» بوصفه�ا إح�دى‬ ‫المش�روع عن�ي ب�«المركزي�ة‬ ‫ّ‬ ‫المؤث�رات في ظه�ور «ثقاف�ة المطابق�ة»‪ .‬وأو ّد تأكيد ّ‬ ‫أن‬ ‫الغربية» ال يعني إصدار حكم بحق ظاهرة‬ ‫نقد «المركزية‬ ‫ّ‬ ‫ثقافية لها شروطها العامة الخاصة بها‪ ،‬وهو نقد ال يدّ عي‬ ‫تقدي�م بدائ�ل جاه�زة‪ ،‬وليس بمق�دوره اس�تبدال معطى‬ ‫يقر بالمفاضلة‬ ‫بآخر مباش�رة‪ ،‬فهو من هذه الناحية نقد ال ُّ‬ ‫إنما هو ممارس�ة فكرية اس�تنطاقية‪ ،‬غايتها توفير سياقات‬ ‫ّ‬ ‫تمك�ن من إظهار تناقضات الفكر المتمركز حول نفس�ه‪،‬‬ ‫واختزاالت�ه للثقاف�ات األخ�رى‪ ،‬وه�و ال يدّ ع�ي القدرة‬ ‫عل�ى اإلجه�از ف�ور ًا عل�ى كتلة صلب�ة من الممارس�ات‬ ‫المتمرك�زة‪ ،‬فالنقد أبعد ما يكون ع�ن كل هذا‪ ،‬فال يصار‬ ‫اإلجه�از عل�ى الظاهرة من خالل إب�داء الرغبة في ذلك‪،‬‬ ‫يكيف‬ ‫ف�«التفكير الرغب�وي» منفصل عن موضوعه‪ ،‬ألنه ّ‬ ‫الهوة‬ ‫نظري� ًا مس�ار الوقائع للرغب�ة دون األخذ باالعتب�ار ّ‬ ‫الت�ي تفص�ل الرغبة ع�ن موضوعه�ا‪ ،‬إنما يري�د النقد أن‬ ‫يمارس فعله عبر الدخول إلى صلب ظاهرة ثقافية كبيرة‪،‬‬ ‫والتفكي�ر فيه�ا ولكن لي�س التفكير به�ا‪ .‬إذن هو نوع من‬ ‫العمل المنهجي الذي يتصل بموضوعه وينفصل عنه في‬ ‫الغربية على مس�توى‬ ‫الوق�ت ذات�ه‪ ،‬إنه يتص�ل بالمركزية‬ ‫ّ‬ ‫اش�تغال مفاهيمه�ا وفروضه�ا وقضاياه�ا وإش�كالياتها‬ ‫بهدف اس�تكناه طبيعته�ا الداخلية‪ ،‬لكن�ه انفصال واضح‬ ‫عنه�ا‪ ،‬ألنه يه�دف إلى ضب�ط مصادراته�ا‪ ،‬وإقصاءاتها‪،‬‬ ‫الضمنية‪ .‬وبعب�ارة أخرى‪ ،‬فالنقد الذي‬ ‫وإب�راز تناقضاتها‬ ‫ّ‬ ‫يتهرب من االقتراب إلى الظاهرة‬ ‫أردته ال يقبل لنفس�ه أن ّ‬ ‫ً‬ ‫تفصي�ال على‬ ‫الت�ي يدرس�ها‪ ،‬إنم�ا ه�و مدفوع للوق�وف‬ ‫ّ‬ ‫الداخلية لتلك الظاهرة‪ ،‬وفضح االرتباطات‬ ‫التش�كالت‬ ‫ّ‬ ‫الخفي�ة بين المفاهيم المكونّ�ة لظاهرة التمركز‪ ،‬وهو نقد‬ ‫ّ‬ ‫مرجعيات تجريدية ثابتة ترتبط بهذه الثقافة‬ ‫ال يص�در عن‬ ‫ّ‬ ‫والعرقية‪ ،‬إنما‬ ‫أو تل�ك‪ ،‬ناهيك ع�ن المرجعيات الديني�ة‬ ‫ّ‬ ‫هو ممارسة معرفية‪ ،‬تتوغل في تالفيف الظاهرة لتكشف‬ ‫مس ّلماتها واختزاالتها للثقافات واألمم األخرى‪.‬‬ ‫مفهوم التمركز‬ ‫حم�ل‬ ‫يمك�ن تعري�ف التمرك�ز بأن�ه نس�ق ثقاف�ي ُم َّ‬ ‫العرقية)‬ ‫(الدينية‪ ،‬الفكرية‪،‬‬ ‫بمجموعة من المعاني الثقافية‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫تاريخية‪ ،‬إال ّ‬ ‫أن ذلك النسق سرعان‬ ‫تكونت تحت شروط‬ ‫ّ‬ ‫م�ا تعالى على ُبعده التاريخ�ي‪ ،‬فاختزل أصوله ومقوماته‬ ‫إل�ى مجموعة م�ن المفاهيم المجردة الت�ي تتجاوز ذلك‬ ‫ال ُبع�د إل�ى نوع من الاله�وت غير التاريخ�ي‪ ،‬وعلى هذا‬ ‫التمرك�ز تكثُّ�ف مجموعة من الرؤى في مجال ش�عوري‬ ‫محدد‪ ،‬يؤدي إلى تش�كيل كتلة متجانس�ة من التصورات‬ ‫المتص ّلبة‪ ،‬التي تنت�ج الذات المفكرة ومعطياتها الثقافية‪،‬‬ ‫عل�ى أنه�ا األفض�ل‪ ،‬اس�تناد ًا إلى معن�ى مح�دد للهوية‪،‬‬ ‫قوام�ه الثب�ات‪ ،‬والديموم�ة‪ ،‬والتطاب�ق‪ ،‬بحي�ث تك�ون‬ ‫ال�ذات ه�ي المرجعي�ة الفاعل�ة والوحيدة ف�ي أي فعل‪،‬‬ ‫س�واء باستكش�اف ذاته�ا أو بمعرف�ة اآلخ�ر‪ ،‬وال يقتصر‬ ‫األمر ف�ي التمركز على إنتاج ذات مطلق�ة النقاء‪ ،‬وخالية‬ ‫من الش�وائب‪ ،‬إنما‪ ،‬وهذا هو الوج�ه اآلخر ّ‬ ‫لكل تمركز‪،‬‬ ‫الكوفة‪ ،‬السنة ‪ ،2‬العدد ‪ ،4‬خريف ‪235 2013‬‬ ‫ّ‬ ‫محكمة‬ ‫الكوفة‪ :‬مجلة فصلية‬ ‫الذاتي مع نفسها ومع غيرها‪.‬‬ ‫الب�د أن يتأدى ع�ن ذلك تركي�ب صورة مش�وهة آلخر‪.‬‬ ‫بالتش�وه الثقافي‬ ‫وبين ال�ذات الصافية واآلخ�ر الملتبس‬ ‫ّ‬ ‫(الديني‪ ،‬والفكري‪ ،‬والعرق�ي) ينتج التمركز أيديولوجيا المركزية الغربية‬ ‫الغربية من نتاج فلس�فة التاريخ التي فرضت‬ ‫المركزية‬ ‫إقصائي�ة اس�تبعادية ض�د اآلخ�ر‪ ،‬وأيديولوجي�ا طهرانية‬ ‫ّ‬ ‫تص�ور ًا مخصوص ًا لتاريخ أوربا منذ القرن الثامن عش�ر‪،‬‬ ‫مقدس�ة خاصة بالذات‪ ،‬فينقسم الوعي معرفي ًا على ذاته‪،‬‬ ‫ث�م وف�ي خط�وة ثانية‪ ،‬ب�دأت تعي�د إنت�اج الماضي بكل‬ ‫لكن�ه أيديولوجي�ا يم�ارس فعله الم�زدوج بوصف�ه كتلة‬ ‫والعرقية ليواف�ق ذلك التصور‬ ‫مكونات�ه الثقافي�ة والدي ّنية‬ ‫موحدة لها منظور واحد‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫بم�ا يجع�ل الغ�رب ه�و األس�مى ف�ي ثقافت�ه وانتمائ�ه‬ ‫يكش�ف النق�د التناقض�ات الكامنة في ُصل�ب الثقافة‬ ‫الدين�ي والعرقي‪ ،‬وذلك قب�ل االنتقال إلى تركيب صورة‬ ‫المتمركزة حول ذاتها‪ ،‬وهو الذي يدفع بها إلى أن ُتفصح‬ ‫مش�وهة لآلخ�ر‪ ،‬فج�رى‬ ‫يتتب�ع‬ ‫ع�ن مضمراته�ا‪ ،‬ألن�ه ّ‬ ‫اصطن�اع خراف�ة األص�ل‬ ‫بدق�ة الممارس�ات الملتوي�ة‬ ‫يمكن تعريف التمركز بأنه نسق ثقافي‬ ‫النقي‪ ،‬والمعجزة اإلغريقية‪،‬‬ ‫للمفاهي�م الت�ي تكونه�ا‪،‬‬ ‫حمل بمجموعة من المعاني الثقافية‬ ‫ُم َّ‬ ‫الديني�ة الكونية‬ ‫والمس�ؤولية‬ ‫وال تق�ف مهم�ة النق�د عن�د‬ ‫(الدين ّية‪ ،‬الفكرية‪ ،‬العرق ّية) ت ّكونت تحت‬ ‫ّ‬ ‫شروط تاريخ ّية‬ ‫للمس�يحية ب ُبعده�ا الكنس�ي‬ ‫إظه�ار أخط�ار التمركز‪ ،‬إنما‬ ‫ّ‬ ‫ولي�س األخالق�ي‪ ،‬وجع�ل‬ ‫يهي�ئ األم�ر لهوي�ة ثقافي�ة‬ ‫س�ر الوج�ود بكامله‪ ،‬وس�رعان ما أدت‬ ‫ومتش�عب الموارد من‬ ‫جدي�دة قائمة على مس�ار متحول‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الحتمي�ة الغربية ّ‬ ‫تل�ك الفلس�فة إلى ظه�ور منه�ج الوحدة واالس�تمرارية‬ ‫المنظ�ورات والمكون�ات الثقافي�ة المنتج�ة أو المع�اد‬ ‫ال�ذي يق�ول بوحدة الفك�ر الغرب�ي وتماس�كه ّ‬ ‫واطراده‪،‬‬ ‫إنتاجه�ا في ض�وء الش�روط الثقافية والتاريخي�ة للذات‪،‬‬ ‫وبم�ا ّ‬ ‫ويقول في الوقت نفس�ه بكونيته بوصف�ه نموذج ًا صالح ًا‬ ‫أن هوية التمركز تظه�ر مجردة عن بعدها التاريخي‬ ‫وكونية في آن‪ّ ،‬‬ ‫لكل زمان ومكان‪ .‬وقد أسهمت جهود «فيكو» و«هردر»‬ ‫ف�إن هوية االختالف‬ ‫بوصفه�ا هوية ق�ارة‬ ‫ّ‬ ‫«كانت»‬ ‫و«كوندرس�يه» ف�ي المرحل�ة األول�ى‪ ،‬وجه�ود‬ ‫تتجنب إنتاج أيديولوجيا لها صلة بهذه الركائز‪ ،‬فاتصالها‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫و«هيغ�ل» و«ماركس» ف�ي المرحلة الالحق�ة في إنضاج‬ ‫به�ا تاريخ�ي طبيع�ي ولي�س له بع�د أيديولوج�ي متصل‬ ‫التصور وبلورته‪ ،‬ثم تهيئة األسباب لقبوله‪ ،‬ثم تعميمه‬ ‫هذا‬ ‫بمعن�ى الهوي�ة‪ ،‬وأخي�ر ًا فيم�ا تق�وم الهوي�ة المتمرك�زة‬ ‫ّ‬ ‫ليكون إحدى المس� ّلمات في الفكر الغربي الحديث‪ .‬لم‬ ‫بطمس كل العناصر التي تتعارض مع مفهوم الهوية‪ ،‬كما‬ ‫أنتجتها تلك الثقافة‪ّ ،‬‬ ‫التص�ور وبلورت�ه‪ ،‬ث�م تعميمه ليك�ون إحدى‬ ‫يكن ه�ذا‬ ‫فإن هوية االختالف تجعل من تلك‬ ‫ّ‬ ‫تم بمعزل عن‬ ‫العناصر مكونات فاعلة فيها‪ ،‬وهي ُتمثل جانب ًا من جدلها‬ ‫المس� ّلمات في الفكر الغربي الحديث‪ ،‬قد ّ‬ ‫‪ 236‬الكوفة‪ ،‬السنة ‪ ،2‬العدد ‪ ،4‬خريف ‪2013‬‬ ‫عبداهلل ابراهيم‪ :‬ختام العدد‪/‬مدخل إلى التجربة النقدية والفكرية‬ ‫الحرك�ة االجتماعية التي بدأت تتضح معالمها منذ القرن‬ ‫الخامس عشر‪ ،‬والتي مثلها الحراك االجتماعي المتصل‬ ‫بتغيير الترتيب الطبقي والس�يادة السياس�ية ونشوء الدولة‬ ‫الحديث�ة وتطلع�ات الطبق�ة المثقف�ة وأصح�اب رؤوس‬ ‫األم�وال‪ ،‬وح�ركات التبش�ير الدين�ي‪ ،‬وكل م�ا يتص�ل‬ ‫بالبحث عن دور جديد ألوربا في العالم‪ ،‬سواء بالكشف‬ ‫الجغراف�ي واالس�تيطان أو باالحتالل أو بف�رض الرؤية‬ ‫والنم�وذج الغربي على اآلخري�ن‪ .‬كان الغرب قد أصبح‬ ‫بحاجة ماس�ة لفكرة جديدة تجعل منه األسمى واألقوى‬ ‫ف�ي العالم‪ ،‬وهذا يقتضي إنتاج ٍ‬ ‫ماض يوافق تلك الفكرة‪،‬‬ ‫وانتداب نفس�ه ألداء رسالة حضارية على مستوى العالم‬ ‫واتب�اع ّ‬ ‫كل الوس�ائل المتاحة لتحقيق ذل�ك‪ ،‬واالختالق‬ ‫فيما يخص الماضي‪ ،‬والعنف واإلكراه فيما يخص نش�ر‬ ‫تلك الرسالة‪ .‬وهكذا ّ‬ ‫تشكلت هياكل التمركز الغربي‪.‬‬ ‫أعاد منهج الوحدة واالستمرارية صياغة الوقائع طبق ًا‬ ‫لمقتضيات رؤية فلس�فة التاريخ‪ ،‬وق�دّ م معطيات جديدة‬ ‫خاص�ة بتاري�خ الغ�رب‪ ،‬مس�تبعد ًا ّ‬ ‫كل ما يمك�ن اعتباره‬ ‫ورس�خ رؤية‬ ‫نقط�ة ضع�ف ووه�ن ف�ي ذل�ك التاري�خ‪ّ ،‬‬ ‫بديل�ة؛ تق�ول ّ‬ ‫إن ذل�ك التاري�خ محكوم بصيرورة تش�دّ ُه‬ ‫التمعن في رحلته من�ذ الحقبة‬ ‫تط�ور مس�تديم‪ ،‬وإن‬ ‫ّ‬ ‫إل�ى ّ‬ ‫اإلغريقي�ة إل�ى اآلن يكش�ف ع�ن المرك�ز ال�ذي يؤ ّلف‬ ‫ّ‬ ‫قوام وحدته‪ ،‬ويكش�ف عن الغاية التي تمثل ع ّلة تطوره‪،‬‬ ‫وأنت�ج رؤية مزدوج�ة لموضوعاته‪ .‬م�ازال تاريخ العالم‬ ‫خارج الغرب يعيش انكس�ارات متواصلة‪ ،‬ومازال بعيد ًا‬ ‫االطراد الذي يدرجه في س�لم ّ‬ ‫عن ّ‬ ‫التط�ور‪ .‬ومن أبرز ما‬ ‫أصل مقومات‬ ‫حققه ه�ذا المنهج في ثقاف�ة الغرب‪ ،‬أن�ه ّ‬ ‫وثبته�ا انطالق ًا من‬ ‫والديني�ة‬ ‫الغ�رب الفكري�ة‪،‬‬ ‫والعرقية‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫المق�وم الفك�ري من‬ ‫ولم�ا كان‬ ‫لحظ�ة‬ ‫تاريخي�ة معين�ة‪ّ .‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫األس�س الت�ي وجده�ا ذلك المنه�ج غاية ف�ي األهمية‪،‬‬ ‫فق�د اهتم ب�ه‪ ،‬وراح ّ‬ ‫ينظم الممارس�ات العقلي�ة األولى‪،‬‬ ‫ليجع�ل منه�ا مرك�ز ًا ومنطلق ًا لذل�ك الفكر‪ ،‬وم�ا إن عثر‬ ‫عل�ى قضي�ة المبدأ في التأم�الت اإلغريقي�ة‪ ،‬إال وعدّ ْت‬ ‫القضي�ة‪ ،‬ممثل�ة بش�خص طاليس األيون�ي اللحظة‬ ‫ه�ذه‬ ‫ّ‬ ‫األول�ى لوالدة الفلس�فة‪ ،‬ورتّب�ت الممارس�ات الالحقة‬ ‫جميعها‪ ،‬انتهاء بالفلس�فة الغربية الحديثة‪ ،‬على أنها نسغ‬ ‫حي ّ‬ ‫يغذي بعضه بعض ًا‪ .‬ومن الطبيعي أنه س�يهمل‪ ،‬مادام‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫واالط�راد‪ّ ،‬‬ ‫كل المعطي�ات التي ال‬ ‫يبحث عن التماس�ك‬ ‫تواف�ق معاييره‪ ،‬وبه�ذه الطريقة ُرس�خت الفك�رة القائلة‬ ‫بأن كل فلس�فة ال تش�غل بالمفاهيم التي أنتجتها الفلسفة‬ ‫ث�م الغربية‪ ،‬ال ب�د أن ُتس�تبعد من ميدان‬ ‫اإلغريقي�ة ومن ّ‬ ‫الفلس�فة الح ّقة‪ ،‬ألنها غير مؤهلة ألن تكسب مشروعيتها‬ ‫الفكرية‪ ،‬وبذلك فرضت والدة قيصرية للفلسفة‪ ،‬باعتبار‬ ‫أن أباها طالي�س‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫وأن موطنها الجزر األيونية ثم األرض‬ ‫اليوناني�ة‪ ،‬وجرى قطع األواصر التي تربط تلك التأمالت‬ ‫بالم�وروث الفكري الذي كان يمور به الش�رق قبل ذلك‬ ‫بم�دة طويلة‪ ،‬واعتبرت المعجزة اإلغريقية أروع أحداث‬ ‫التاريخ‪.‬‬ ‫أق�ام منه�ج الوحدة واالس�تمرارية بعملي�ة «تغريب»‬ ‫للمس�يحية بما يجعلها‪ ،‬وحس�ب إرادة الكنسية‪،‬‬ ‫ضخمة‬ ‫ّ‬ ‫تعرف بكونها‬ ‫ديانة ّ‬ ‫كونية ش�املة بحيث أصبحت «أوربا» ّ‬ ‫مس�يحية‪ ،‬وأنه�ا حامل�ة ل�واء الدي�ن إل�ى العال�م الوثني‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫خام�ال‪ ،‬وبحاجة إلى‬ ‫خارجه�ا‪ ،‬ذلك العال�م الذي اعتبر‬ ‫الكوفة‪ ،‬السنة ‪ ،2‬العدد ‪ ،4‬خريف ‪237 2013‬‬ ‫ّ‬ ‫محكمة‬ ‫الكوفة‪ :‬مجلة فصلية‬ ‫دينية لتطهيره من فس�اده الوثني‪ .‬ومعروف ّ‬ ‫أن رس�الة‬ ‫قيم ّ‬ ‫الرجل األبيض‪ ،‬في أهم وجوهها‪ ،‬كانت تتم تحت ستار‬ ‫تم اس�تثمار‬ ‫التبش�ير‪ ،‬أما فيما يخص ّ‬ ‫التفوق العرقي‪ ،‬فقد ّ‬ ‫نظري�ة «الكيوف األرس�طية» وتوس�يعها م�ن جانب‪ ،‬ثم‬ ‫اختزاله�ا من جوان�ب أخرى‪ ،‬بم�ا جعلها تدع�م الفكرة‬ ‫القائل�ة بتفوق الع�رق الغربي‪ ،‬وظهرت نظري�ات تبرهن‬ ‫عل�ى أهلية ذلك الع�رق وتفوقه على األع�راق األخرى‪.‬‬ ‫وبه�ذه الطريق�ة ت�م إنت�اج غ�رب متمي�ز بتفوق�ه الثقافي‬ ‫والدين�ي والعرق�ي‪ ،‬وكانت فلس�فة التاري�خ األوربية قد‬ ‫بل�ورت ه�ذه الص�ورة الرغبوية ودعت إليه�ا‪ ،‬وأدرجت‬ ‫معظم جهود الفلسفة الغربية الحديثة لتعزير تلك الفكرة‪.‬‬ ‫توجت حقبة طويلة من السعي‬ ‫وكانت فلسفة هيغل ذروة ّ‬ ‫لتحقي�ق ه�ذا األم�ر‪ ،‬فتل�ك الفلس�فة إنم�ا ه�ي منظومة‬ ‫ش�املة تق�وم عل�ى أس�اس التمرك�ز‪ ،‬وبقدر تع ّل�ق األمر‬ ‫بجانب فلس�فة الروح فيها‪ّ ،‬‬ ‫فإن الغرب هو المرفأ األخير‬ ‫ألفضل تجليات الروح‪-‬العقل في مجاالت الفن والدين‬ ‫والفلس�فة‪ .‬ولكن األمر الذي يكشف أهمية قصوى هنا‪،‬‬ ‫هو أن تمركز الفكر الغربي حول نفس�ه‪ ،‬عبر رحلة ش�اقة‬ ‫م�ن الفرضي�ات والمح�اوالت والمس�تندات الفلس�فية‬ ‫والتاريخي�ة والديني�ة والعرقية‪ ،‬كان ق�د أدى إلى تركيب‬ ‫صورة مش�وهة لآلخ�ر‪ ،‬فالعالم خارج نط�اق أوربا‪ ،‬نظر‬ ‫إليه بوصفه س�ديم ًا غامض ًا‪ ،‬وبدائي� ًا‪ ،‬وخاضع ًا لعالقات‬ ‫اجتماعي�ة تحت�اج إلى تهش�يم قب�ل أن يتم نش�ر الفضيلة‬ ‫واألخالق والعقل فيه‪.‬‬ ‫‪ 238‬الكوفة‪ ،‬السنة ‪ ،2‬العدد ‪ ،4‬خريف ‪2013‬‬ ‫الخطاب االستعماري‬ ‫يقر بالش�راكة‬ ‫ت�أ ّدى ع�ن المركزي�ة الغربية خطاب� ًا ال ّ‬ ‫االس�تعماري»‬ ‫اإلنس�انية في القيم العا ّمة‪ ،‬هو «الخطاب‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫ثنائية ضد ّية ثابتة‪ ،‬فالمس�تعمر ممثّل للخير‬ ‫الذي افترض ّ‬ ‫المستعمر‬ ‫األخالقية والتقدّ م‪ ،‬أ ّما‬ ‫وس�مو المقام والرفعة‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫والدوني�ة والتخ ّلف‪ ،‬وال‬ ‫للش�ر واالنحط�اط‬ ‫فمس�تودع‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫س�بيل للق�اء بينهم�ا إ ّ‬ ‫المس�تعمر تابع� ًا‬ ‫ال حينم�ا ي�درج‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫للمس�تعمر‪ ،‬فر ّبما جرى تعديل وضعه‪ ،‬لك ّنه لن يكتسب‬ ‫الطبيعية‪ ،‬فيكون مثل العبد الذي يحاول‬ ‫السو ّية البش�ر ّية‬ ‫ّ‬ ‫يتبوأ رتبة السيادة‪ ،‬فعبود ّيته‬ ‫س�يده‪ ،‬لك ّنه لن ّ‬ ‫تقليد س�لوك ّ‬ ‫ه�ي المانح�ة لقيمت�ه‪ ،‬وكذلك األم�ر في س�وق التداول‬ ‫التبعية عالمة امتثال بها تتحدّ د‬ ‫االستعمار ّية‪ ،‬حيث تكون‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫قيم�ة التاب�ع‪ .‬وكما يق�ول فرانز فان�ون‪ّ :‬‬ ‫المس�تعمر ال‬ ‫إن‬ ‫المستعمرة بأنّها خالية من‬ ‫يكتفي بأن يصف المجتمعات‬ ‫َ‬ ‫القي�م‪ ،‬أو أنّها ل�م تعرفها ّ‬ ‫قط‪« ،‬إنّما هو يعلن ّ‬ ‫أن الس�كان‬ ‫األصليين ال سبيل لنفاذ األخالق إلى أنفسهم‪ّ ،‬‬ ‫وأن القيم‬ ‫ّ‬ ‫ال وج�ود لها عندهم‪ ،‬ب�ل إنّهم إنكار للقي�م‪ ،‬أو قل إنّهم‬ ‫الش�ر المطلق‪.‬‬ ‫أعداء القيم‪ .‬فالمس�تعمر بهذا المعنى هو‬ ‫ّ‬ ‫إنّه عنصر متلف ّ‬ ‫يحطم ّ‬ ‫يشوه‬ ‫مخرب ّ‬ ‫كل ما يقاربه‪ ،‬عنصر ّ‬ ‫ّ‬ ‫كل م�ا ل�ه صل�ة بالجمال واألخ�الق‪ ،‬إنّه مس�تودع قوى‬ ‫شيطانية‪ ،‬إنّه أداة ال وعي لها وال سبيل إلى إصالحها»‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫االس�تعماري تم ّلك اآلخر‪ ،‬فلم يضعه‬ ‫أراد الخط�اب‬ ‫ّ‬ ‫في مس�توى رتبت�ه‪ ،‬إنّما حجزه ف�ي رتبة التاب�ع‪ ،‬فمارس‬ ‫بذل�ك نوع ًا م�ن الرغبة في التم ّلك وع�دم اإلقرار بها‪ ،‬إذ‬ ‫االستعماري على فكرة السيطرة على اآلخرين‬ ‫قام المبدأ‬ ‫ّ‬ ‫تفوق‬ ‫بالق�وة‬ ‫ّ‬ ‫المع�ززة بالمراقبة والعزل‪ ،‬واألخ�ذ بفكرة ّ‬ ‫ّ‬ ‫عبداهلل ابراهيم‪ :‬ختام العدد‪/‬مدخل إلى التجربة النقدية والفكرية‬ ‫العرقي�ة والتواطؤات الفئو ّية‪،‬‬ ‫ف�روج‬ ‫الطبائ�ع والثقاف�ات‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫التاريخي�ة‬ ‫والخلفي�ات‬ ‫لمعرف�ة خدم�ت المصال�ح‬ ‫مازال تاريخ العالم خارج الغرب يعيش‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الديني�ة‬ ‫الخاص�ة‪ ،‬والعقائ�د‬ ‫وس�عى‬ ‫االس�تعمار ّية‪،‬‬ ‫انكسارات متواصلة‪ ،‬ومازال بعيداً عن‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫االطراد الذي يدرجه في سلم ّ‬ ‫ّ‬ ‫الراس�خة‪ ،‬ال تستطيع المعرفة‬ ‫إل�ى تثبي�ت ص�ورة راك�دة‬ ‫التطور‪.‬‬ ‫االس�تعمار ّية الغ�وص فيه�ا‪،‬‬ ‫المس�تعمرة‪،‬‬ ‫للمجتمع�ات‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ويتعذر عليه�ا تأويل دالالتها‬ ‫ف�كان بذل�ك ج�زءا م�ن‬ ‫الرمز ّي�ة‪ ،‬فكثي�ر منه�ا ال يفه�م إ ّ‬ ‫الثقاف�ي‬ ‫ال ف�ي الس�ياق‬ ‫وس�ائل الس�يطرة عليها‪ ،‬ألنّه وضعها ف�ي موقع أدنى من‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫الحاضن لها‪.‬‬ ‫المس�تعمرة‪ ،‬فانشق مضمونه إلى ش ّقين‪:‬‬ ‫موقع الشعوب‬ ‫وانته�ى األم�ر بالمعرف�ة االس�تعمار ّية إل�ى الوصول‬ ‫الثقافية‬ ‫الموضوعية وق�ام بتحلي�ل األبني�ة‬ ‫ظاه�ر ا ّدع�ى‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫إل�ى نتائ�ج لم تص�دق على موضوعه�ا‪ ،‬إنّما اس�تجابت‬ ‫والديني�ة لتل�ك المجتمع�ات‪ ،‬بمناه�ج‬ ‫واالقتصاد ّي�ة‬ ‫ّ‬ ‫ثمة‬ ‫المنهجية‬ ‫للش�روط‬ ‫العلمية‪ ،‬ولك�ن تعوزها الرؤية‬ ‫وصفي�ة ال تنقصها الد ّق�ة‬ ‫الغربية التي حملتها معها‪ ،‬وليس ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫التبعي�ة‪ ،‬ومؤ ّداه�ا أ ّ‬ ‫لفرضيات ال‬ ‫قيم�ة لمعرفة تعي�د إنتاج موضوعاتها طب ًق�ا‬ ‫ال‬ ‫روج لفك�رة‬ ‫الصحيح�ة‪ ،‬ومضم�ر ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫األصلية إ ّ‬ ‫صلة لها بتل�ك الموضوعات‪ ،‬إلى ذلك لم تخل المعرفة‬ ‫ال‬ ‫س�بيل لبعث الحراك في ركود المجتمع�ات‬ ‫ّ‬ ‫الغربية ف�ي التقدّ م‪ ،‬وتب ّني ّ‬ ‫فت روح المقاومة عند‬ ‫تطورها‬ ‫باس�تعارة التجربة‬ ‫جر ْ‬ ‫خط ّ‬ ‫ّ‬ ‫االستعمار ّية من غايات مستترة ّ‬ ‫أخالقيات االنصياع‬ ‫المس�تعمرة‪ ،‬وأح ّلت فيها‬ ‫الشعوب‬ ‫التاريخي‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫أخالقيات المقاوم�ة‪ ،‬فجرى تمثيل أحوالها بصور‬ ‫محل‬ ‫لي�س من الصواب اس�تعارة معرفة جرى تطويرها في‬ ‫ّ‬ ‫فتتوهم‬ ‫األصلية‪،‬‬ ‫بدائية غامضة‪ ،‬ليقع فصلها عن ُهو ّياتها‬ ‫غربي لتحليل مجتمعات نشأت في حواضن‬ ‫ثقافي‬ ‫سياق‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫بأن القطيعة معها ستقودها إلى الحداثة‪.‬‬ ‫مهم�ة‪ ،‬وجدي�رة‬ ‫مختلف�ة‪ ،‬إذ ق�د تك�ون تل�ك المعرف�ة ّ‬ ‫الغربي وس�يلة‬ ‫التطور‬ ‫ث�م جاء مقت�رح األخذ بمس�ار‬ ‫ولك�ن كفاءته�ا تأت�ي م�ن كونه�ا مش�تقة م�ن‬ ‫بالتقدي�ر‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫للتق�دّ م‪ ،‬فوضع المعرفة االس�تعمار ّية في م�أزق خطير‪،‬‬ ‫الزج‬ ‫موضوعه�ا‬ ‫األصلي‪ ،‬فال تكون كذل�ك إذا ما جرى ّ‬ ‫ّ‬ ‫االس�تعماري لفك�رة تق�دّ م واحدة في‬ ‫روج الخط�اب‬ ‫ثمة معرفة عابرة‬ ‫ّ‬ ‫إذ ّ‬ ‫بها في تحليل موضوعات أخرى؛ فليس ّ‬ ‫الغربية‪ ،‬وجعله�ا مثا ً‬ ‫ال‬ ‫اإلنس�اني ه�ي التجرب�ة‬ ‫التاري�خ‬ ‫التاريخية‬ ‫والخلفي�ات‬ ‫االجتماعية‬ ‫للتقالي�د والعالق�ات‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الغربي هو السبيل الوحيد‬ ‫ينبغي أن يحتذى‪ ،‬فمسار التقدّ م‬ ‫الدينية‪ ،‬وال غرابة أن ينهار كثير من نتائج بحوث‬ ‫والعقائد‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫التاريخي�ة من اإلغريق إلى‬ ‫للتطور‪ ،‬وفكرة االس�تمرار ّية‬ ‫االستعماري بسبب عدم قدرتها على استيعاب‬ ‫الخطاب‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الغ�رب الحدي�ث‪ ،‬وضع�ت أم�ام العالم مقترح� ًا وحيد ًا‬ ‫المس�تعمرة‬ ‫موضوعه�ا اس�تيعابا كام�ال؛ فالمجتمع�ات‬ ‫َ‬ ‫الغرب�ي‪ّ ،‬‬ ‫وكل مجتم�ع ال يأخ�ذ‬ ‫للتط�ور ه�و المقت�رح‬ ‫كالتحيزات‬ ‫متنوع�ة م�ن ال�والءات‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫تس�تقر على بطان�ة ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الكوفة‪ ،‬السنة ‪ ،2‬العدد ‪ ،4‬خريف ‪239 2013‬‬ ‫ّ‬ ‫محكمة‬ ‫الكوفة‪ :‬مجلة فصلية‬ ‫بذلك س�وف ّ‬ ‫يظ�ل خارج التاريخ‪ ،‬فوقع تناس�ي تجارب‬ ‫بالبدائي�ة والتخ ّلف‪،‬‬ ‫المجتمع�ات األخ�رى‪ ،‬ووصم�ت‬ ‫ّ‬ ‫أن التقدّ م ال يأخذ معناه إ ّ‬ ‫ذل�ك ّ‬ ‫الغربي له‪،‬‬ ‫ال من الوصف‬ ‫ّ‬ ‫وله�ذا تعثّرت تجارب التحديث ف�ي معظم المجتمعات‬ ‫مرت بالتجربة االس�تعمار ّية؛ ألنّه�ا ينبغي أن تمتثل‬ ‫التي ّ‬ ‫الغربية‪ ،‬وليس لحداثة م ّتصلة ُبهو ّية تلك‬ ‫لش�رط الحداثة‬ ‫ّ‬ ‫التاريخية‪.‬‬ ‫المجتمعات وتجاربها‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫المعرف�ة االس�تعمار ّية والمقت�رح‬ ‫وف�ي الحالتي�ن‪،‬‬ ‫المس�تعمرة‪ ،‬ف�إن ذل�ك‬ ‫لتط�ور الش�عوب‬ ‫االس�تعماري‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫لم يف�ض إلى وصف دقي�ق ألحوال تل�ك المجتمعات‪،‬‬ ‫الحقيقي‪ ،‬فلجأ االس�تعمار بش�كله‬ ‫ولم ي�ؤ ّد إلى تقدّ مها‬ ‫ّ‬ ‫العسكري القديم الذي اعتمد مبدأ االحتالل‪ ،‬أو بأشكاله‬ ‫ّ‬ ‫والسياس�ية المعاص�رة‪ ،‬إل�ى‬ ‫واإلعالمي�ة‬ ‫االقتصاد ّي�ة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫القوة في إخضاع تلك المجتمعات وترويضها‪،‬‬ ‫ممارس�ة ّ‬ ‫س�واء بالعنف من خالل االحتالل والس�يطرة المباش�رة‬ ‫ً‬ ‫جاع�ال‬ ‫والثقاف�ي‪،‬‬ ‫االس�تهالكي‬ ‫عليه�ا‪ ،‬أو باإلغ�واء‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫للحر ّي�ات الفرد ّية‪،‬‬ ‫الغربي المث�ال األعل�ى‬ ‫م�ن المرك�ز‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫االقتصادي‪ ،‬فتالزمت‬ ‫االجتماعية واإلنت�اج‬ ‫والعالق�ات‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫فرضت والدة قيصرية للفلسفة‪ ،‬باعتبار ّ‬ ‫أن‬ ‫أباها طاليس‪ّ ،‬‬ ‫وأن موطنها الجزر األيونية‬ ‫ثم األرض اليونانية‪ ،‬وجرى قطع األواصر‬ ‫التي تربط تلك التأمالت بالموروث الفكري‬ ‫الذي كان يمور به الشرق قبل ذلك بمدة‬ ‫طويلة‬ ‫‪ 240‬الكوفة‪ ،‬السنة ‪ ،2‬العدد ‪ ،4‬خريف ‪2013‬‬ ‫قوة متعدّ دة األش�كال‬ ‫معرفة غي�ر م ّتصلة بموضوعها مع ّ‬ ‫من أجل بس�ط الهيمنة‪ ،‬ولهذا بقيت فك�رة التقدم ّ‬ ‫معطلة‬ ‫إ ّ‬ ‫االس�تعماري‪،‬‬ ‫ال بما وقع تفس�يره م�ن منظور الخطاب‬ ‫ّ‬ ‫الغربي‪.‬‬ ‫باعتباره ضر ًبا من التماثل مع نموذج التقدّ م‬ ‫ّ‬ ‫لم تفلح المعرفة االس�تعمار ّية في تقديم حلول دقيقة‬ ‫المستعمرة‪ ،‬أو التي‬ ‫للمشكالت التي تعانيها المجتمعات‬ ‫َ‬ ‫سياسية‬ ‫مؤسسات‬ ‫مرت بالتجربة االس�تعمار ّية وأنتجت ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الغربية‪ .‬ومع األخذ في الحسبان‬ ‫المؤسسات‬ ‫تحاكي بها‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الغربي‪ ،‬في‬ ‫وأهم ّية مس�ار التقدّ م‬ ‫الغربية‪،‬‬ ‫أهم ّي�ة المعرفة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الغربية‪ ،‬فهما أقرب‬ ‫كونهم�ا م ّتصلين بالتجربة الحضار ّية‬ ‫ّ‬ ‫بالقوة على المجتمعات‬ ‫إلى الهوت جدي�د جرى فرضه ّ‬ ‫المس�تعمرة من أجل إخضاعها وترويضها وإدراجها في‬ ‫َ‬ ‫التبعية‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫على ّ‬ ‫أن المفارقة انبثقت من مكان آخر‪ ،‬كش�ف عمق‬ ‫االس�تعماري‪ ،‬فقد ّ‬ ‫ركز على‬ ‫االلتباس ف�ي بنية الخطاب‬ ‫ّ‬ ‫وكرس التباينات‪ ،‬فرأى في ّ‬ ‫كل اختالف عن‬ ‫االختالفات‪ّ ،‬‬ ‫دونية‪ ،‬فكان عاجز ًا عن تقدير االختالفات‬ ‫المركز‬ ‫الغربي ّ‬ ‫ّ‬ ‫بما هي عليه‪ ،‬ولم يقبل بها‪ ،‬إنّما أراد لها أن تكون وصمة‬ ‫ع�ار ينبغ�ي ّ‬ ‫تذكره�ا دائم� ًا عل�ى أنّه�ا عالم�ة انحط�اط‬ ‫المس�تعمرة هاج�س‬ ‫وتخ ّل�ف‪ ،‬فعاش�ت المجتمع�ات‬ ‫َ‬ ‫القل�ق والهشاش�ة والحي�رة‪ ،‬وق�د اقتلعت م�ن أصولها‪،‬‬ ‫الغربي‪ ،‬فليس أمامها س�وى‬ ‫التطور‬ ‫ولم تدمج في مس�ار‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫التبعية‪ ،‬إذ جرى تخريب معرفتها بأحوالها‪ ،‬و ُقضي‬ ‫خي�ار‬ ‫ّ‬ ‫الخاص‪ ،‬وفرضت عليها معرفة أخرى‪،‬‬ ‫نموها‬ ‫ّ‬ ‫على مسار ّ‬ ‫غربي ف�ي أوس�اطها‪ ،‬هذا من‬ ‫ووق�ع التروي�ج لتحدي�ث‬ ‫ّ‬ ‫جهة‪ ،‬ومن جهة أخرى فقد أخفقت المعرفة االستعمار ّية‬ ‫عبداهلل ابراهيم‪ :‬ختام العدد‪/‬مدخل إلى التجربة النقدية والفكرية‬ ‫حقيقي الندراجها‬ ‫في مالمس�ة مش�اكلها‪ ،‬ولم يقع قبول‬ ‫ّ‬ ‫الغربي‪ ،‬فجرى تكري�س اختالفها عن‬ ‫التط�ور‬ ‫في مس�ار‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الغ�رب في ّ‬ ‫كل ش�يء‪ ،‬ولهذا اندرجت ف�ي عالقة التابع‪،‬‬ ‫والقوة االس�تعمار ّية ف�ي حجز تلك‬ ‫فتضاف�رت المعرفة‬ ‫ّ‬ ‫المجتمعات ضمن أطر محدّ دة‪ ،‬فال يسمح لها باالندماج‬ ‫األصلية‪.‬‬ ‫العالمي‪ ،‬وال يقبل لها بتطوير ُهو ّياتها‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫من التمركز إلى العولمة‬ ‫تطورت نزعة التمركز الغربية فطرحت مفهوم ًا متص ً‬ ‫ال‬ ‫به�ا‪ ،‬وه�و مفه�وم «العولم�ة»‪ ،‬فامت�دّ الطم�وح ليش�مل‬ ‫غربية مس�تمدة من‬ ‫العال�م بأجمعه‪ ،‬ويدرجه ضمن رؤية ّ‬ ‫أيديولوجيا التمركز مع مراعاة ش�رط التراتب والتفاضل‬ ‫والتماي�ز بي�ن م�ا هو غرب�ي وما لي�س كذلك‪ .‬وكثي�ر ًا ما‬ ‫يصار التأكيد على ّ‬ ‫أن الغاية األساسية لنزعة العولمة هي‪:‬‬ ‫تركي�ب عالم متجانس ُّ‬ ‫تحل فيه وحدة القيم والتصورات‬ ‫والغاي�ات والرؤى واألهداف محل التش�تت والتناقض‪،‬‬ ‫ولك�ن ه�ذه النزعة اختزل�ت العالم إلى مفه�وم‪ ،‬بدل أن‬ ‫تتعامل معه على أنه تش�كيل متنوع من القوى واإلرادات‬ ‫تق�ر‬ ‫واالنتم�اءات والثقاف�ات والتط ّلع�ات‪ .‬ووح�دة ال ُّ‬ ‫بالتن�وع س�تؤدي إل�ى تفجير نزع�ات التعص�ب المغلقة‬ ‫والمطالبة بالخصوصيات الضيقة‪.‬‬ ‫أوق�دت العولم�ة‪ ،‬بتعميمه�ا النم�وذج الغرب�ي على‬ ‫مستوى العالم‪ ،‬واستبعادها التشكيالت الثقافية األصيلة‪،‬‬ ‫التف�رد األعم�ى‪ ،‬فهيمنة نموذج ثقاف�ي واحد‪ ،‬ال‬ ‫ش�رارة‬ ‫ّ‬ ‫ي�ؤدي إلى ّ‬ ‫حل المش�كالت الخاصة بالهوي�ة واالنتماء‪،‬‬ ‫إنم�ا على العكس يؤدي إلى ظه�ور أيديولوجيات تضخ‬ ‫مفاهي�م جديدة ح�ول نقاء األص�ل وصف�اء الهوية‪ ،‬إلى‬ ‫ذل�ك ّ‬ ‫فإن عملية محاكاة النموذج الكوني الغربي س�تقود‬ ‫إل�ى سلس�لة ال نهائية من التقليد المفتع�ل الذي تصطرع‬ ‫في�ه التص�ورات‪ ،‬وهو يصط�دم بالنم�اذج الموروثة التي‬ ‫س�تبعث عل�ى أنه�ا ُنظ�م رمزي�ة تمث�ل رأس�ما ً‬ ‫ً‬ ‫قاب�ال‬ ‫ال‬ ‫لالس�تثمار األيديولوج�ي عرقي� ًا وثقافي� ًا وديني� ًا‪ .‬م�ن‬ ‫الصع�ب إج�راء رص�د ختامي لم�ا أفضت إلي�ه العولمة‬ ‫س�واء أكانت ممارس�ات متنوع�ة ظهرت منذ أن اس�تقام‬ ‫أم�ر التمركز الغربي أم منذ ظه�رت حديث ًا على أنها نزعة‬ ‫فكري�ة نظرية‪ ،‬ولك�ن األمر الذي يمكن رص�ده والبرهنة‬ ‫علي�ه ه�و؛ أن العولمة خلقت إمكانيات واس�عة لس�يادة‬ ‫الوالء لآلخر‪ ،‬وهيمنة الفك�ر االمتثالي‪ ،‬واختزال الذات‬ ‫إلى عنصر هامش�ي‪ ،‬واس�تبعاد المكونات القابلة للتطور‬ ‫والنمو‪ ،‬وكل ذلك أدى إلى انهيارات متعاقبة في األنساق‬ ‫الثقافية غير الغربية‪.‬‬ ‫المركزية اإلسالمية‬ ‫ينبغ�ي أن نؤك�د أن كل مركزي�ة تق�وم عل�ى فك�رة‬ ‫االخت�الق الس�ردي الخ�اص لم�اض مرغ�وب يش�بع‬ ‫تطلع�ات آني�ة‪ ،‬ويواف�ق رغب�ات قائم�ة‪ ،‬فه�ذه ُس�نن‬ ‫المركزي�ات‪ ،‬وبمواجه�ة الحاجة إلى ت�وازن ما‪ُ ،‬تصطنع‬ ‫ذاك�رة تواف�ق تل�ك التط ّلع�ات‪ ،‬أو يت�م تعوي�م صور من‬ ‫الماض�ي‪ ،‬لغاي�ات خاصة‪ .‬وق�د ذهب «إدوارد س�عيد»‬ ‫إل�ى مضم�ون ه�ذه الفك�رة‪ ،‬حينما أك�د أن «ثم�ة منهج ًا‬ ‫الس�تخدام الذاك�رة بش�كل انتقائي من خ�الل التالعب‬ ‫بقط�ع معينة من الماض�ي‪ ،‬وذلك بطم�س بعضها وإبراز‬ ‫الكوفة‪ ،‬السنة ‪ ،2‬العدد ‪ ،4‬خريف ‪241 2013‬‬ ‫ّ‬ ‫محكمة‬ ‫الكوفة‪ :‬مجلة فصلية‬ ‫بعضه�ا اآلخر بأس�لوب يؤدي وظيفة من ن�وع ما‪ ..‬ومن‬ ‫هنا ليست الذاكرة بالضرورة أصيلة‪ ،‬بل هي على األصح‪،‬‬ ‫ذاك�رة نافعة‪...‬وذل�ك يع�ود إل�ى أن االهتم�ام بالذاك�رة‬ ‫م�ن أجل ماض مرغ�وب فيه يمكن اس�تعادته هي ظاهرة‬ ‫محملة مش�حونة‪ ،‬وقد ب�رزت إلى الوج�ود حديث ًا نتيجة‬ ‫ّ‬ ‫التغي�رات المربكة ف�ي مجتمعات كبيرة تف�وق التصور‪،‬‬ ‫مجتمعات بش�رية ضخمة‪ ،‬واس�عة االنتش�ار‪ ،‬وقوميات‬ ‫متنافس�ة‪ ،‬ولع�ل األمر األكث�ر أهمية‪ ،‬فيم�ا يخص ظهور‬ ‫الذاك�رة التي يمك�ن االنتفاع به�ا ألداء وظائف تحتاجها‬ ‫األم�م والمجتمعات‪ ،‬ف�ي واقعها المعاص�ر‪ ،‬هو تناقص‬ ‫فعالي�ة األواص�ر الديني�ة والعائلي�ة والروابط الس�اللية‪،‬‬ ‫ويتطلع الناس اآلن إلى هذه الذاكرة المتجدّ دة‪ ،‬سيما في‬ ‫شكلها الجمعي‪ ،‬ليمنحوا أنفسهم هوية متماسكة‪ ،‬وسرد‬ ‫قومي‪ ،‬ومكان في العالم»‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫إن األمثل�ة ف�ي عالمن�ا المعاصر أكثر م�ن أن تحصى‬ ‫ف�ي مج�ال اخت�الق ذاك�رات تاريخي�ة وعرقي�ة ودينية‪،‬‬ ‫والبح�ث المس�كون بأوهام كبرى لالنتس�اب إلى ماض‬ ‫عري�ق كمعادل موضوعي لوهن قائم‪ ،‬أو النتزاع ش�رعية‬ ‫في عال�م محتدم بصراع الهوي�ات والتطلعات واآلمال‪،‬‬ ‫ومشبع في الوقت نفس�ه بحاالت انكسار للقيم التقليدية‬ ‫الموروثة‪ ،‬وانهيار لنس�ق العالقات القديمة‪ ،‬وهذا التوتر‬ ‫ّ‬ ‫االستعماري تم ّلك اآلخر‪ ،‬فلم‬ ‫أراد الخطاب‬ ‫يضعه في مستوى رتبته‪ ،‬إ ّنما حجزه في رتبة‬ ‫التابع‬ ‫‪ 242‬الكوفة‪ ،‬السنة ‪ ،2‬العدد ‪ ،4‬خريف ‪2013‬‬ ‫ّ‬ ‫يض�خ رغب�ات دائمة تريد اس�تخدام الماضي اس�تخدام ًا‬ ‫س�مو ًا ورفع�ة‪ ،‬واآلخر‬ ‫أيدلوجي� ًا بم�ا يضفي عل�ى األنا‬ ‫ّ‬ ‫خفض� ًا ودوني�ة‪ .‬وإعادة ق�راءة المرويات ف�ي ضوء هذه‬ ‫الحاجات‪ ،‬يسهم في هذا الضرب من الصراعات‪ ،‬فاألمم‪،‬‬ ‫والجماع�ات‪ ،‬تتس�اجل فيم�ا بينه�ا‪ ،‬أيض�ا‪ ،‬عب�ر الصور‬ ‫اإلكراهية التي تش�كلها بواسطة السرود لغيرها‪ .‬وقوامها‬ ‫نس�يج متش�ابك من المروي�ات الخاصة بها عن نفس�ها‪،‬‬ ‫وع�ن األم�م األخرى‪ .‬وغالب� ًا ما تحمل تل�ك المرويات‬ ‫مدون�ات وصفي�ة أو تخيلية‪ ،‬تت�وارى فيها‬ ‫عب�ر التاري�خ‬ ‫ٌ‬ ‫الصور الكلية للمش�اعر والتطلع�ات والتجارب‪ ،‬والقيم‬ ‫الديني�ة والنفس�ية واألخالقية‪ .‬واس�تنطاق تل�ك المتون‬ ‫إنما هو اس�تنطاق لذاكرة‪ ،‬ونقدها إنما هو محاولة لوقف‬ ‫حية في نزاعات معاصرة‪ .‬لم يكن‬ ‫استخدامها كأيدلوجيا ّ‬ ‫تشويه اآلخر قد أثمر عن فائدة حقيقية‪ ،‬ولن يكون ممكن ًا‬ ‫وقف ذلك إال استناد ًا إلى رؤية نقدية تكشف ذلك النسغ‬ ‫المتصاعد في الفكر والسلوك المعاصرين‪.‬‬ ‫النظ�ر إلى المركزي�ات الكبرى في التاريخ اإلنس�اني‬ ‫م�ن زاوي�ة كونه�ا نت�اج مروي�ات ثقافية متنافس�ة يوس�ع‬ ‫المجال أمام الدراس�ات المخيالية التي اس�تبعدت بتأثير‬ ‫م�ن فكرة الحداثة الغربية‪ ،‬الحداثة التي ال تعدو أن تكون‬ ‫رواي�ة من نوع خ�اص للتاري�خ أنتجها المخي�ال الغربي‬ ‫المتخ ّف�ي تحت غطاء العقالنية في ظ�ل ظروف خاصة‪،‬‬ ‫وه�ذه النظرة إلى المركزيات تس�عى إلعادة االعتبار إلى‬ ‫المرويات الثقافية التي تتوارى أحيان ًا وراء الستار السميك‬ ‫للمفاهي�م والمناهج فتأخذ ش�كل تحليالت موضوعية‪،‬‬ ‫وتتجرد غالب ًا عن ذلك فتكون مرويات س�ردية‪ ،‬فيما هي‬ ‫عبداهلل ابراهيم‪ :‬ختام العدد‪/‬مدخل إلى التجربة النقدية والفكرية‬ ‫تخف�ي دائم� ًا درجات من التمثيل الس�ردي الذي يتدخل‬ ‫ف�ي ص�وغ العالق�ات اإلنس�انية‪ ،‬والمفاهي�م الفكري�ة‪،‬‬ ‫والتصورات الخاصة باألنا واآلخر‪.‬‬ ‫أنتج�ت الق�رون الوس�طى مروي�ات ثقافي�ة تضمنت‬ ‫تصورات شبه ثابتة لأعراق والثقافات والعقائد‪ ،‬وكانت‬ ‫يتدخل في رف�ع قيمة ما‬ ‫تل�ك التص�ورات تمثّ�ل معي�ار ًا ّ‬ ‫أو خفضه�ا ل�دى أي مجتم�ع أو ثقاف�ة‪ .‬ولي�س خافي ًا أن‬ ‫الحكم المس�بق على ظاهرة اجتماعي�ة أو ثقافية أو دينية‬ ‫س�يؤدي إلى نتيجة تضف�ي مكانة رفيعة عليها أو تس�لبها‬ ‫ّ‬ ‫المتش�كلة في أذهان‬ ‫مكانتها الحقيقية‪ ،‬والصور التخيلية‬ ‫المجتمع�ات‪ ،‬بفع�ل الخالف�ات الديني�ة‪ ،‬والصراع�ات‬ ‫السياس�ية‪ ،‬وتباي�ن المنظوم�ات القيمي�ة‪ ،‬واألنس�اق‬ ‫الثقافي�ة‪ ،‬أ ّدت خ�الل تل�ك الحقب�ة الطويلة إلى ترس�يخ‬ ‫توجه‬ ‫صور منقوصة لبعضها‪ .‬ومادام�ت تلك المرويات ّ‬ ‫ّ‬ ‫والمفكري�ن‬ ‫والرحال�ة‬ ‫المؤرخي�ن والجغرافيي�ن‬ ‫أف�كار‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫�ن يص�وغ الص�ور الجماعي�ة الذهني�ة‬ ‫والفقه�اء‪ ،‬وكل َم ْ‬ ‫الخاصة باآلخر‪ ،‬وبخاصة المدونات الوصفية والسردية‬ ‫والعجائبية‪ ،‬فمن المنتظر الحصول على سلسلة متواصلة‬ ‫من األحكام غير المنصفة بحق اآلخر المختلف‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫إن الع�ودة إل�ى مروي�ات الثقاف�ة اإلس�المية ( نقصد‬ ‫بالمرويات هنا كل تعبير يقوم بوظيفة تمثيلية للمرجعيات‬ ‫الثقافي�ة والعرقي�ة‪ ،‬بغ�ض النظر عن الصيغ�ة)‪ ،‬وبخاصة‬ ‫الجغرافي�ة والتاريخي�ة والديني�ة والتخيلي�ة‪ ،‬وكت�ب‬ ‫الرحالت‪ ،‬طوال القرون الوس�طى تبين بجالء أن صورة‬ ‫ّ‬ ‫ومركبة بدرجة كبيرة من التش�ويه الذي‬ ‫مشوش�ة‪،‬‬ ‫اآلخ�ر ّ‬ ‫المعبر رمزي ًا وتمثيلي ًا‬ ‫يحي�ل على أن المخيال اإلس�المي‬ ‫ّ‬ ‫عن تص�ور المس�لمين للعالم‪ ،‬ق�د أنتج صور ًا تبخيس�ية‬ ‫لآلخ�ر‪ .‬العال�م خ�ارج دار اإلس�الم‪ ،‬كم�ا قام�ت تل�ك‬ ‫المرويات بتمثيله‪ ،‬غف�ل‪ ،‬ومبهم‪ ،‬وبعيد عن الحق‪ ،‬وهو‬ ‫بانتظ�ار عقي�دة صحيح�ة إلنقاذه من ضالل�ه‪ .‬وال تخفى‬ ‫التحي�زات الخاصة بذلك التمثي�ل‪ .‬وكانت صورة اآلخر‬ ‫ّ‬ ‫الدوني�ة مث�ار قب�ول واحتفاء ف�ي كثير م�ن األحيان لدى‬ ‫المؤرخي�ن والجغرافيي�ن‪ ،‬ول�م يجر‪ ،‬في ح�دود علمنا‪،‬‬ ‫معم�ق لها‪ ،‬وال كش�ف التنميطات الثقافي�ة الجاهزة‬ ‫نقد ّ‬ ‫لآلخ�ر‪ .‬كان ه�ذا التص�ور التقلي�دي لآلخ�ر إ ّب�ان تلك‬ ‫الحقبة يقيم معرفة تخيلية ملتبسة مع نفسها‪ ،‬يتم تعميمها‬ ‫وفرضها اس�تناد ًا إلى الس�جال‪ ،‬وليس التجربة والمعاينة‬ ‫واالكتشاف المباشر‪ ،‬وقد ال تراعى في كل ذلك الجدوى‬ ‫المس�تخلصة منه�ا‪ ،‬وال اله�دف الم�راد تحقيقه‪ ،‬س�وى‬ ‫االمتثال للفكرة الراس�خة القائلة بالتفاضل‪ ،‬فاألنا مفعمة‬ ‫بقي�م س�امية‪ ،‬واآلخر يفتق�ر إليه�ا‪ ،‬األنا فاع�ل‪ ،‬واآلخر‬ ‫منفع�ل‪ .‬حينما تصهر مع� ًا كل العناص�ر المكونة لظاهرة‬ ‫ما‪ ،‬يمكن الحديث عن اقتراب إلى حقيقة الشيء‪.‬‬ ‫تضاف�رت المروي�ات من أجل تمثيل ال�ذات واآلخر‬ ‫اس�تناد ًا إلى آلية مزدوجة الفاعلية أخذت ش�كلين‪ :‬ففيما‬ ‫نقية‪ ،‬وحيو ّية‪ ،‬ومتعالية‪،‬‬ ‫يخص الذات أنتج «التمثيل» ذات ًا ّ‬ ‫ومتضمن�ة الص�واب المطل�ق‪ ،‬والقي�م الرفيع�ة‪ ،‬والحق‬ ‫ّ‬ ‫ليس من الصواب استعارة معرفة جرى‬ ‫غربي لتحليل‬ ‫تطويرها في سياق‬ ‫ثقافي ّ‬ ‫ّ‬ ‫مجتمعات نشأت في حواضن مختلفة‬ ‫الكوفة‪ ،‬السنة ‪ ،2‬العدد ‪ ،4‬خريف ‪243 2013‬‬ ‫ّ‬ ‫محكمة‬ ‫الكوفة‪ :‬مجلة فصلية‬ ‫ّ‬ ‫التمركز حول الذات داخل دار اإلسالم‪.‬‬ ‫فضخ مجموع�ة من المعاني األخالقي�ة المنتقاة‬ ‫الدائ�م؛‬ ‫الحدي�ث ع�ن الص�ورة الت�ي ارتس�مت للعال�م ف�ي‬ ‫عل�ى كل األفعال الخاصة بها‪ ،‬وفيم�ا يخص اآلخر أنتج‬ ‫المخي�ال اإلس�المي خ�الل الق�رون الوس�طى يوجب‪،‬‬ ‫«التمثي�ل» «آخر»يش�وبه التوت�ر وااللتب�اس واالنفع�ال‬ ‫بداية‪ ،‬البحث في مركزية دار اإلسالم خالل تلك الحقبة‬ ‫أحيان�ا‪ ،‬والخمول والكس�ل أحيان ًا أخ�رى‪ ،‬وذهب فيما‬ ‫المش�بعة بالس�جاالت الديني�ة؛ فالمركزي�ة اإلس�المية‪،‬‬ ‫يخ�ص األق�وام في المناط�ق النائي�ة إلى ما ه�و أكثر من‬ ‫ومفهوم «دار اإلسالم» سيقومان بتشكيل مالمح خاصة‪،‬‬ ‫ذل�ك‪ ،‬حينم�ا وصفهم بالض�الل والحيواني�ة والتوحش‬ ‫ومتو ّقع�ة‪ ،‬لص�ورة اآلخ�ر‪ ،‬تل�ك الص�ورة التي س�تلوح‬ ‫والبوهيمي�ة‪ ،‬وبذل�ك أقص�ى كل المعان�ي األخالقي�ة‬ ‫ف�ي أف�ق انتظارن�ا طبقا للحدود التي تس�مح به�ا مفاهيم‬ ‫تقب�ل النس�ق الثقافي له‪،‬‬ ‫المقبول�ة عن�ده‪ ،‬واس�تبعد أم�ر ّ‬ ‫نتحرر م�ن ضغ�ط المفاهيم‪،‬‬ ‫بتدرج‬ ‫ُ‬ ‫فح ّمل اآلخر‪ ،‬من خالل تفسير خاص‪ ،‬بقيم رتّبت ّ‬ ‫التمرك�ز‪ .‬وم�ن المه�م أن ّ‬ ‫ودالالته�ا الموروثة والممل�وءة بثقاف�ة عصرها‪ ،‬وذلك‬ ‫لتك�ون في تعارض مع القيم اإلس�المية‪ .‬وبذلك اصطنع‬ ‫ل�ن يت�م إال بتداوله�ا في حق�ل المعرف�ة النقدي�ة الهادفة‬ ‫«التمثي�ل» تمايز ًا بين الذات واآلخ�ر‪ ،‬أفضى إلى متوالية‬ ‫إلى امتصاص ش�حن الغلواء‬ ‫من التعارض�ات والتراتبيات‬ ‫فالموجه�ات‬ ‫تس�هل إمكاني�ة أن يقوم ينبغي أن نؤكد على أن كل مركزية تقوم الكامن�ة فيه�ا‪،‬‬ ‫التي ّ‬ ‫ّ‬ ‫الط�رف األول ف�ي اخت�راق على فكرة االختالق السردي الخاص لماض الفكري�ة لمصطل�ح «دار‬ ‫الثان�ي‪ ،‬وتخليص�ه م�ن مرغوب يشبع تطلعات آنية‪ ،‬ويوافق رغبات‬ ‫تتدخل في ترتيب‬ ‫اإلس�الم» ّ‬ ‫قائمة‬ ‫رؤيتن�ا لم�ن هم خ�ارج تلك‬ ‫خمول�ه وضالل�ه وبوهيميته‬ ‫ال�دار‪ ،‬ألنه�ا مج�ال ثقاف�ي‬ ‫ووحش�يته‪ ،‬وإدراج�ه ف�ي‬ ‫مش�بع بمنظومة عقائدية متجانسة‪ ،‬تختلف عن المنظومة‬ ‫عال�م الحق‪ .‬وباس�تثناء حاالت مح�دودة خاصة بالعالم‬ ‫الخاص�ة باآلخ�ر‪ ،‬إنها تدف�ع بنا إلى موقف من�ه أكثر مما‬ ‫الش�رقي‪ ،‬فم�ن الن�ادر الحدي�ث ع�ن تمثي�ل محاي�د‪،‬‬ ‫تس�هل لن�ا اس�تخالص ص�ورة حقيقي�ة ل�ه‪ ،‬فالمخي�ال‬ ‫فالمروي�ات الكب�رى ال تنقطع ع�ن مرجعياته�ا الثقافية‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫يتش�كل عبر التجارب التاريخية والعالقات‬ ‫مكون ثقافي‬ ‫وهي سرود ش�املة ال تعرف البراءة في التمثيل‪ ،‬وليست‬ ‫ّ‬ ‫المتنوع�ة‪ ،‬ويص�در أحكام�ه ع�ن اآلخ�ر ضمن ش�ب�كة‬ ‫ش�فافة‪ ،‬إنما تش�تبك م�ع مرجعياتها في نوع م�ن التمثيل‬ ‫محكمة ومتالزمة من تلك التصورات الخاصة به‪.‬‬ ‫الكثيف‪ ،‬وتصوغها صوغ ًا رمزي ًا‪ ،‬فترش�ح من تضاعيفها‬ ‫يش�ير مصطل�ح «دار اإلس�الم» إل�ى ذل�ك المج�ال‬ ‫كل المواق�ف القيمي�ة والثقافي�ة‪ .‬هذه اآللي�ة التي وفرت‬ ‫الش�عوري الذي تتراس�ل فيه منظومة من القي�م الروحية‬ ‫اعتصام ًا بالذات وتحصن ًا وراء أسوارها المنيعة‪ ،‬وإقصاء‬ ‫وعززت‬ ‫لآلخ�ر وتش�ويه حالت�ه اإلنس�انية‪ ،‬ه�ي م�ن نتائ�ج ثقافة‬ ‫واألخالقي�ة والعقائدية التي انبثقت عن القرآن‪ّ ،‬‬ ‫‪ 244‬الكوفة‪ ،‬السنة ‪ ،2‬العدد ‪ ،4‬خريف ‪2013‬‬ ‫عبداهلل ابراهيم‪ :‬ختام العدد‪/‬مدخل إلى التجربة النقدية والفكرية‬ ‫الكتاب الذين آثروا البقاء على ديانتهم مقابل دفع الجزية‪،‬‬ ‫بفه�م المس�لمين لطبيع�ة الرس�الة الت�ي يتضمنه�ا‪ ،‬وهو‬ ‫وجمي�ع الس�اكنين ف�ي دار اإلس�الم يعتبرون م�ن رعايا‬ ‫تراسل يتجاوز االنتماءات العرقية والثقافية والجغرافية‪،‬‬ ‫اإلم�ام أو الخليفة‪ ،‬ولهم حق الحماي�ة في الداخل وحق‬ ‫ولكن�ه ال يهمله�ا وال يتقاطع معها‪ ،‬ذلك أن اإلس�الم لم‬ ‫الدف�اع عنه�م في حال اعت�داء خارجي‪ .‬أم�ا دار الحرب‬ ‫يض�ع أية ش�روط محددة للتوفي�ق بين الع�رق والعقيدة‪،‬‬ ‫تضم العالم المحيط بدار اإلسالم‪ ،‬وتضم جميع‬ ‫فهم�ا انتماءان ال تعارض بينهم�ا في المنظومات الدينية‪،‬‬ ‫فكانت ّ‬ ‫الش�عوب واألقالي�م غير الخاضعة للس�يادة اإلس�المية‪.‬‬ ‫يتوازي�ان ويلتقي�ان ويتماس�ان دون أن يلغ�ي أي منهم�ا‬ ‫وكانت دار الحرب هي الهدف الذي كان الش�رع يس�عى‬ ‫اآلخ�ر‪ ،‬وه�ذا األمر بذات�ه هو ال�ذي يظهر إل�ى الوجود‬ ‫ضمه إليه‪ ،‬ومن واجب كل حاكم مس�لم أن يس�عى‬ ‫إس�الم ًا متع�دد األبعاد‪ ،‬يت�م تل ّقي�ه وإنتاج�ه والتفكير به‬ ‫إل�ى ّ‬ ‫إلخض�اع دار الحرب للس�يادة اإلس�المية عندم�ا تتوافر‬ ‫طبق ًا للخصوصيات الثقافية واالجتماعية‪ ،‬لكن اإلس�الم‬ ‫ل�ه القوة الضرورية لذلك‪ ،‬وس�كان دار الحرب ُيعتبرون‬ ‫كمنظومة قيم روحية وعقائدية عامة ينتظم في نسق واحد‬ ‫أنه�م ال يزال�ون على س�جيتهم األولى البدائي�ة‪ ،‬وكانت‬ ‫ش�امل‪ ،‬فهو يضم هذه التصورات‪ ،‬ويهضم االختالفات‬ ‫تنقصه�م الكف�اءة الش�رعية‬ ‫والخصائص الثانوية‪ ،‬وذلك‬ ‫الت�ي تؤهله�م للدخ�ول ف�ي‬ ‫أم�ر ش�ائع يفرض�ه واق�ع‬ ‫المخيال اإلسالمي المع ّبر رمزياً وتمثيلياً‬ ‫مفاوض�ات م�ع المس�لمين‬ ‫ح�ال المس�لمين المتصلي�ن‬ ‫عن تصور المسلمين للعالم‪ ،‬قد أنتج صوراً‬ ‫عل�ى ق�دم المس�اواة‪ ،‬وعلى‬ ‫بأعراقهم الكثيرة‪ ،‬والمنتمين‬ ‫تبخيسية لآلخر‪.‬‬ ‫مب�دأ العدالة بالمث�ل‪ ،‬ألنهم‬ ‫إلى هوي�ات ثقافي�ة متعددة‪،‬‬ ‫يعج�زون عن االنس�جام مع‬ ‫داخل إطار الثقافة اإلسالمية‬ ‫المس�توى الخلقي والشرعي لدى المسلمين‪ ،‬وعلى هذا‬ ‫العامة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫فالمعاهدات معهم لم يكن معترف ًا بها ضمن ًا طبق ًا للش�رع‬ ‫احت�ل الحدي�ث ع�ن دار الح�رب مكان� ًا ب�ارز ًا ف�ي‬ ‫األدبي�ات الفقهية اإلس�المية منذ الق�رن الثاني الهجري‪،‬‬ ‫وزاد االهتم�ام به ف�ي القرون الالحقة‪ ،‬وأس�هم فيه نخبة‬ ‫م�ن الفقه�اء‪ ،‬إذ كان العالم حس�ب المفهوم اإلس�المي‬ ‫تضم المجتمعات‬ ‫ينقس�م إلى قسمين‪ :‬دار اإلس�الم التي ّ‬ ‫اإلس�المية وغي�ر اإلس�المية الت�ي رضخ�ت للس�يادة‬ ‫اإلس�المية‪ ،‬ودار الح�رب‪ .‬أما دار اإلس�الم فتش�مل فئة‬ ‫المؤمني�ن‪ ،‬والفئ�ات الت�ي حالف�ت المس�لمين من أهل‬ ‫اإلسالمي‪.‬‬ ‫إن دار اإلس�الم م�ن ناحية نظرية ه�ي في حالة حرب‬ ‫م�ع دار الحرب‪ ،‬ألن الهدف األخير لإلس�الم هو العالم‬ ‫بأس�ره‪ ،‬وإذا أفلح في ذلك‪ ،‬فإن حالة السلم التي يفرضها‬ ‫اإلس�الم ّ‬ ‫تح�ل مح�ل كل تدبي�ر س�لمي آخ�ر‪ ،‬وتصب�ح‬ ‫الشعوب غير المسلمة إ ّما جزء ًا من الدولة اإلسالمية‪ ،‬أو‬ ‫خاضعة لسيادتها كأقليات دينية معترف بها‪ ،‬أو كوحدات‬ ‫الكوفة‪ ،‬السنة ‪ ،2‬العدد ‪ ،4‬خريف ‪245 2013‬‬ ‫ّ‬ ‫محكمة‬ ‫الكوفة‪ :‬مجلة فصلية‬ ‫ذات اس�تقالل ذاتي تربطها بالدولة اإلسالمية معاهدات‬ ‫ّ‬ ‫تنظ�م العالق�ات بينهم�ا‪ .‬طبق� ًا له�ذا التصور ف�إن الفكر‬ ‫السياس�ي اإلس�المي أوج�د دولة بمقتضى عق�د مقدّ س‬ ‫قائم على الشريعة‪ ،‬وال انفصال بين الدولة والمجتمع وال‬ ‫بين الدولة والدين‪ .‬وكما يذهب «ش�اخت» فإن الشريعة‬ ‫ه�ي «نم�وذج للقان�ون الدين�ي‪ ،‬وكان الخليف�ة أو اإلمام‬ ‫هو الش�خص المس�ؤول مباش�رة ع�ن حماية الش�ريعة‪،‬‬ ‫ومس�ؤول أيض� ًا ليس فقط ع�ن الحفاظ عل�ى حدود دار‬ ‫اإلس�الم وصيانته�ا‪ ،‬إنم�ا توس�يعها لتهيئة العال�م لقبول‬ ‫الش�ريعة بما يجعل العالم كله معتنقا لإلس�الم؛ فالله هو‬ ‫المصدر النهائي للس�لطة‪ ،‬والجماعة اإلسالمية أ ّمة الله‪،‬‬ ‫وممتلكاته�ا مال الله‪ ،‬بما في ذلك الغنائم‪ ،‬وأعداؤها هم‬ ‫أيضا أعداء الله»‪.‬‬ ‫ُنظ�ر إل�ى الش�عوب المقيم�ة خ�ارج دار اإلس�الم‬ ‫باعتبارها ش�عوب ًا ضالة ينبغي أن تمتثل للش�ريعة اإللهية‪،‬‬ ‫ويج�ب أن يبس�ط اإلس�الم فيها قيم�ه األخالقي�ة‪ .‬هناك‬ ‫حرب قائمة بين دار اإلس�الم ودار الحرب‪ ،‬حرب معلنة‬ ‫أو مضم�رة‪ ،‬وهي ال تنتهي إال حينم�ا يدخل الجميع إلى‬ ‫اإلسالم أو يخضعون له؛ فالسالم بين الدارين غير ممكن‬ ‫من ناحية شرعية ألنه مصالحة بين نقيضين‪ :‬حق وباطل‪،‬‬ ‫ه�دى وضالل�ة‪ ،‬ووجود هدن�ة اليعن�ي أن تضع الحرب‬ ‫الفكر السياسي اإلسالمي أوجد دولة‬ ‫بمقتضى عقد مقدّس قائم على الشريعة‪،‬‬ ‫وال انفصال بين الدولة والمجتمع وال بين‬ ‫الدولة والدين‪.‬‬ ‫‪ 246‬الكوفة‪ ،‬السنة ‪ ،2‬العدد ‪ ،4‬خريف ‪2013‬‬ ‫أوزارها دائم ًا‪ ،‬فالهدنة مؤقتة ال تزيد على عش�ر سنوات‪،‬‬ ‫وللمس�لمين ح�ق نقضه�ا م�ن ط�رف واح�د‪ ،‬ومواصلة‬ ‫الجه�اد‪ ،‬متى وج�دوا ذل�ك مم�كن� ًا وض��روري ًا‪ .‬وكان‬ ‫هذا يشمل كل الممالك المتاخمة لدار اإلسالم‪ ،‬باستثناء‬ ‫الحبش�ة التي استثنيت من ذلك ألس�باب تتصل بموقفها‬ ‫من اإلسالم في مرحلته األولى‪.‬‬ ‫تقوم النظرة إلى اآلخر على أسس دينية وقيمية‪ ،‬فالدين‬ ‫هو الذي يمنح المعنى لأشياء‪ ،‬وللظواهر وللبشر‪ ،‬لذلك‬ ‫ف�إن البحث عن مالمح اآلخ�ر يفترض العودة‪ ،‬بكيفية ما‬ ‫إلى النص المرجعي األول‪ ،‬إلى القرآن‪ ،‬الذي يزود النظر‬ ‫المتخيل بما‬ ‫ويطع�م‬ ‫ببع�ض عناص�ر اإلدراك والوع�ي‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫يحت�اج إليه من صور وأش�كال ورموز‪ ،‬ومادام اإلس�الم‬ ‫يحم�ل تصور ًا للعالم ولإلنس�ان‪ ،‬ويمثل الن�ص القرآني‬ ‫تكثيف� ًا للكالم الر ّبان�ي‪ ،‬وتعبيرا عن تج ّلي�ات المقدّ س‪،‬‬ ‫فإنه يشكل مصدر ًا للرؤية‪ ،‬وقاعدة معيارية للجماعة‪.‬‬ ‫وتثي�ر قضي�ة اآلخ�ر ف�ي أذه�ان المس�لمين موضوع‬ ‫القيم اإلس�المية وضرورة تعميمها على العالم بأجمعه‪.‬‬ ‫اآلخر هو موضوع ينبغي أن ُيغزى بالقيم اإلس�المية لكي‬ ‫يصل�ح أم�ره‪ .‬كان التص�ور الش�ائع ع�ن ال�ذات واآلخر‬ ‫يس�تمد حيويته م�ن المركزية اإلس�المية‪ ،‬أي تلك البؤرة‬ ‫الت�ي تنبث�ق منها قي�م الح�ق إلى األب�د‪ .‬وبالنظ�ر إلى أن‬ ‫التص�ور يذهب إلى اعتبار أن الله ه�و مصدرها‪ ،‬وأنه قد‬ ‫ّ‬ ‫ح�ل هنا «دار اإلس�الم» ولم يح�ل هن�اك «دار الحرب»‬ ‫فينبغ�ي إذا الوص�ول إلى نتيجة واحدة‪ :‬قيم دار اإلس�الم‬ ‫هي الحقيقي�ة‪ ،‬وهي الش�املة‪ ،‬وهي المطلق�ة الصواب‪.‬‬ ‫وقي�م اآلخر مث�ار اس�تغراب‪ ،‬واس�تهجان؛ فه�ي وثنية‪،‬‬ ‫عبداهلل ابراهيم‪ :‬ختام العدد‪/‬مدخل إلى التجربة النقدية والفكرية‬ ‫مح ّقرة‪ ،‬مدنّس�ة‪ ،‬يلزم تطهيرها من النجاس�ة الوثنية‪ .‬قيم‬ ‫اآلخ�ر ه�ي موضوع لحك�م القيم�ة وقلي ً‬ ‫ال ما اس�تأثرت‬ ‫بوص�ف موضوع�ي‪ .‬وف�ي عص�ر يتص�دّ ر في�ه الش�عور‬ ‫الدين�ي أي ش�عور آخر‪ ،‬ال م�كان للمصالحة والش�راكة‬ ‫ف�ي القي�م واألخالقيات‪ .‬ولكي ّ‬ ‫حي ًا‪،‬‬ ‫يظل ذلك الش�عور ّ‬ ‫متوهج ًا‪ ،‬وم ّتق�د ًا بالتنازع القيمي البد من تفريق حاس�م‬ ‫قائم على ثنائية الح�ق والباطل بين قيم�(نا) وقيم�(هم)‪.‬‬ ‫ه�ذه الثنائية تصوغ وعي الوعي المجموع‪ ،‬وتجعله يبني‬ ‫تخيالته ومواقفه وأحكامه واختياراته على أس�اس فكرة‬ ‫التفاضل والتراتب التي تقود إلى اإلعالء من شأن الذات‬ ‫وخف�ض قيم�ة اآلخر‪ .‬لق�د تم ّ‬ ‫تخط�ي اإلنس�ان كذات‪،‬‬ ‫وص�ار التركيز عليه كموضوع للقي�م‪ ،‬وأهميته ال تتحدّ د‬ ‫من كونه بشرا‪ ،‬إنما في اعتناقه ضربا من القيم دون غيره‪.‬‬ ‫تتص�ف القي�م الديني�ة بالثب�ات‪ ،‬وكان الفه�م الديني‬ ‫للحي�اة يقوم دائم� ًا بمراجع�ات دقيقة كيال يخ�رم الزمن‬ ‫التح�ول‪ ،‬بعبارة‬ ‫ثب�ات القي�م‪ ،‬فتص�اب بالفس�اد بس�بب‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫تتخط�ى البعد التاريخي‪ ،‬ولها قدرة‬ ‫أخرى فالقيم الدينية‬ ‫الش�مول والديموم�ة والثبات؛ ألنها قيم مكانية وليس�ت‬ ‫تقر بالتحول‪ ،‬ثابتة‪ ،‬ساكنة‪ ،‬دائمة الصحة‪،‬‬ ‫زمانية‪ ،‬فهي ال ّ‬ ‫يتكيف معها‪ ،‬فيظل ف�ي حالة تصحيح‬ ‫تري�د لإلنس�ان أن ّ‬ ‫دائم لمس�اره‪ ،‬لكي يمتثل لها‪ .‬هي المركز المشع الدائم‪،‬‬ ‫وه�و ي�دور في فلكها‪ .‬قرب�ه وبعده عنها ه�و الذي يحدد‬ ‫قيمت�ه‪ .‬مادام�ت القي�م الديني�ة ه�ي الت�ي تح�دد أهمي�ة‬ ‫لتضمه إلى‬ ‫اإلنس�ان فمن الطبيعي أن تجرد قواه�ا كاملة‬ ‫ّ‬ ‫عال�م الح�ق‪ ،‬فحيثما تك�ون ثمة حقيقة مطلق�ة الصواب‬ ‫ينبغي نش�رها‪ .‬يس�ود العنف والقسوة كوس�يلتين لذلك‪.‬‬ ‫ُنظر إلى الشعوب المقيمة خارج دار اإلسالم‬ ‫باعتبارها شعوباً ضالة ينبغي أن تمتثل‬ ‫للشريعة اإللهية‪ ،‬ويجب أن يبسط اإلسالم‬ ‫فيها قيمه األخالقية‪.‬‬ ‫أصبحت القيم جوهر ًا‪ ،‬وصار اإلنسان عرض ًا‪.‬‬ ‫اس�تمدت القي�م م�ن طبيع�ة المجتم�ع الذي رس�مه‬ ‫اإلسالم‪ ،‬وتلك القيم هي المعيار الوحيد لصواب المسار‬ ‫الذي ينبغي على المرء أن يسلكه‪ ،‬ذلك سيؤدي إلى وجود‬ ‫نقي�ض؛ النقيض يس�وغ صيان�ة القيم من جه�ة‪ ،‬والعمل‬ ‫لتع�م العالم من جه�ة ثانية‪ ،‬فف�ي المجتمع‬ ‫على نش�رها‬ ‫ّ‬ ‫النص�ي القرآني تمثل الثنائيات الضدّ ية دور ًا حاس�م ًا في‬ ‫ّ‬ ‫ش�طر العالم إلى عالمي�ن‪ .‬ثمة تعارض ثاب�ت ودائم بين‬ ‫الح�ق والباطل‪ ،‬والخير والش�ر‪ ،‬واإليم�ان والكفر‪ .‬وال‬ ‫يمكن أن يظل الصراع منحبس� ًا في المصحف‪ ،‬واس�تناد ًا‬ ‫إل�ى مركزية كالم الله بوصفه المرجعية الكلية والش�املة‬ ‫ل�كل ش�يء‪ ،‬فإن العال�م بتناقضاته قد صي�غ على غراره‪.‬‬ ‫المجتم�ع األرضي المنش�ود إنما هو مح�اكاة للمجتمع‬ ‫النصي‪ ،‬كما قرر ذلك علم الكالم ثم الشريعة اإلسالمية‪.‬‬ ‫ف�ي نهاية المطاف‪ ،‬ال ب�د من انتصار وظفر‪ ،‬فأهل الباطل‬ ‫والش�ر والكفر يتآكل�ون؛ ألنهم زاغوا ع�ن الحق والخير‬ ‫واإليم�ان‪ ،‬والصراع محكوم بالثب�ات والديمومة‪ ،‬وأهل‬ ‫الحق هؤالء أنيطت بهم مهمة خالدة‪ :‬نش�ر كلمة الله في‬ ‫أرج�اء األرض‪ ،‬إذ لي�س ثم�ة ح�دود نهائية تح�ول دون‬ ‫ذل�ك‪ ،‬وبالنظر إلى اختالف العقائد واألديان والثقافات‪،‬‬ ‫فمن المنتظر أن يتعثر أهل الحق في مهمتهم‪ ،‬ولكن ينبغي‬ ‫الكوفة‪ ،‬السنة ‪ ،2‬العدد ‪ ،4‬خريف ‪247 2013‬‬ ‫ّ‬ ‫محكمة‬ ‫الكوفة‪ :‬مجلة فصلية‬ ‫عليهم االلتفاف حول كلمة الله‪ ،‬والتمسك بها‪ ،‬ونشرها‪،‬‬ ‫وذلك ه�و الجهاد‪ .‬الجهاد إذن وس�يلة لحس�م التناقض‬ ‫العقائ�دي‪ ،‬وإح�الل الوحدة محل التعدد‪ ،‬وما دام نس�ق‬ ‫الثنائيات الضدية قائما في صلب التفكير الديني‪ ،‬فالجهاد‬ ‫لن يتوق�ف‪ .‬إنه فعل محكوم بنظام الهوتي عام‪ .‬والحال‬ ‫هذه‪ ،‬فإن فعل الجهاد كممارسة تهدف إلى تحويل البشر‬ ‫إل�ى عقي�دة واحدة‪ ،‬س�وف يصط�دم مع فرضية انش�طار‬ ‫ولما كان‬ ‫العالم إلى عالمين‪ :‬دار اإلس�الم ودار الحرب‪ّ .‬‬ ‫عبر عنه بتجليات مباش�رة‪ ،‬فالمؤمنون يوضعون‬ ‫الصراع ُي ّ‬ ‫ف�ي تضاد مع الكافرين‪ ،‬وبينهم يتح�رك المنافقون حركة‬ ‫مكوكية خادعة‪.‬‬ ‫أش�ار «جاك بيرك» إلى هذا التض�اد الذي يحكم هذه‬ ‫األط�راف بالص�ورة اآلتي�ة «المؤمن�ون يتعارض�ون م�ع‬ ‫مختل�ف أجناس الخص�وم‪ ،‬ويتعارضون حس�ب أنماط‬ ‫الغيري�ة‪ .‬ويق�ف المؤمن�ون إزاء الوثنيي�ن والمش�ركين‬ ‫موق�ف التضاد المنطق�ي‪ ،‬وتنخفض حدة ه�ذا التناقض‬ ‫إل�ى تعاكس بس�يط‪ .‬في ح�ال المنافقين الذي�ن يظهرون‬ ‫وكأنهم مؤمنون‪ ،‬لكنهم ليسوا كذلك في الحقيقة‪ .‬تتحرك‬ ‫سلوكياتهم المراوغة بين جميع الاليقينيات والتقسيمات‬ ‫تعيش المجتمعات اإلسالمية حالياً ازدواجاً‬ ‫خطيراً تختلط فيه قيم روحية "رفيعة"‬ ‫ّ‬ ‫"منحطة" ولم تفلح في فك‬ ‫وقيم مادية‬ ‫االشتباك بين االثنين على أسس عقلية‬ ‫واضحة‬ ‫‪ 248‬الكوفة‪ ،‬السنة ‪ ،2‬العدد ‪ ،4‬خريف ‪2013‬‬ ‫الناجم�ة ع�ن ازدواج الوج�ود والفع�ل وال�كالم‪ ،‬وف�ي‬ ‫النهاي�ة فه�م ينضمون إلى جانب الباط�ل‪ ،‬غير أن هنالك‬ ‫خصوم ًا آخرين س�بق أن لمس�هم الحق و ُب ّلغوا به‪ ،‬لكنهم‬ ‫يرفضون�ه ويخفون�ه‪ .‬إنه�م الكف�ار‪ ،‬ه�ؤالء الكف�ار ال‬ ‫يقدمون أنفس�هم إذن كمنافقين‪ ،‬وإنما كتضمين لالعتقاد‬ ‫م�ن ناحية الباطل»‪ .‬العالم طبقا للتصور العقائدي يحتاج‬ ‫إلى االنقس�ام أو ً‬ ‫ال من أجل أن تكون الوحدة هي الهدف‬ ‫المنش�ود فيما بعد‪ ،‬وم�ادام الحق ينبثق من دار اإلس�الم‬ ‫فالب�د أن تك�ون تلك ال�دار ه�ي المركز‪ ،‬ب�كل المعاني‬ ‫الثقافي�ة والدينية والجغرافية واألخالقية‪ .‬وهذا فيما نرى‬ ‫الدافع وراء مركزية دار اإلس�الم طوال القرون الوس�طى‬ ‫حسب التصورات اإلسالمية‪.‬‬ ‫تم�ددت جغرافي ًا في‬ ‫من الصحيح أن «دار اإلس�الم» ّ‬ ‫قل�ب العال�م القدي�م‪ ،‬ولك�ن اعتباره�ا مرك�ز الحق فاق‬ ‫المكون الجغرافي في تثبيت مركزيتها‪ .‬ظهرت الجغرافيا‬ ‫لتسوغ كل ذلك‪ .‬من الطبيعي أن تجد المنظومات الثقافية‬ ‫تعبيرا له�ا في التواريخ واآلداب والفلس�فات‪ ،‬وفي ُ‬ ‫نظم‬ ‫التفكي�ر والمواق�ف‪ ،‬وف�ي كل ه�ذه تتج ّل�ى المركزي�ة‬ ‫اإلس�المية بدرج�ة أو بأخ�رى‪ ،‬ولك�ن م�ن الواض�ح أن‬ ‫الجغرافي�ة ه�ي الوس�يلة األكثر فاعلية ف�ي تحديد األطر‬ ‫العام�ة للح�دود الرمزي�ة لتل�ك المركزي�ة اإلس�المية‪.‬‬ ‫فكرة «دار اإلس�الم» هي التعبي�ر األكثر وضوح ًا لمفهوم‬ ‫المركزي�ة اإلس�المية‪ .‬وق�د س� ّلم الجغرافي�ون به�ذه‬ ‫الحقيقة‪ ،‬وجعلوها موجه� ًا لتصوراتهم‪ .‬لم ينج أحد من‬ ‫ضغطها الواعي وغير الواع�ي في بناء فرضياته‪ ،‬وتحديد‬ ‫منطلقاته في النظر إلى الذات واآلخر‪.‬‬ ‫عبداهلل ابراهيم‪ :‬ختام العدد‪/‬مدخل إلى التجربة النقدية والفكرية‬ ‫ولئن ذوبت نزعات الحداث�ة والعولمة بعض التخوم‬ ‫الفاصل�ة بي�ن التجمع�ات القومي�ة والعقائدي�ة‪ّ ،‬‬ ‫وفك�ت‬ ‫االنحب�اس التقليدي المتوارث فيه�ا‪ ،‬فإنها بذرت خالف ًا‬ ‫جدي�د ًا تمثله مفاهيم التمركز والتفوق والتفكير بس�يطرة‬ ‫نموذج ثقافي على حساب آخر‪ ،‬وهو أمر نشّ ط مرة أخرى‬ ‫طيات‬ ‫المفاهي�م التناقضية‪-‬الس�جالية التي ّ‬ ‫تخم�رت في ّ‬ ‫الق�رون الوس�طى‪ ،‬وص�ارت ُتبع�ث بإش�كاليات الهوية‬ ‫والخصوصية واألصالة‪ ،‬فالبطانة الش�عورية‪-‬العقائدية‪،‬‬ ‫متن�وع م�ن تج�ارب الماض�ي والتاري�خ‬ ‫وه�ي تش�كيل‬ ‫ّ‬ ‫والتخي�ل واالعتق�اد واللغ�ة والتفكي�ر واالنتم�اءات‬ ‫ّ‬ ‫للتجمعات‬ ‫والتطلعات‪ ،‬تؤ ّلف جوهر الرأس�مال الرمزي‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫المركبة تعمل على‬ ‫المتش�اركة بها‪ ،‬أقول إن تلك البطانة‬ ‫ج�ذب الجماع�ات المنتمي�ة إليه�ا بعضه�ا إل�ى بعض‪،‬‬ ‫وتدفع بها إلى قضايا حساسة وشائكة لها صلة بوجودها‪،‬‬ ‫وقيمها‪ ،‬وآمالها‪ ،‬وق�د تتراجع فاعليتها التأثيرية في حقبة‬ ‫بس�بب ضم�ور فاعلية عناصره�ا‪ ،‬لكنها قابل�ة لالنبعاث‬ ‫مج�دد ًا ف�ي حال�ة التحدّ ي�ات والتط ّلع�ات الحضاري�ة‬ ‫الكبرى‪ .‬وال ُيستبعد أن ُت ّ‬ ‫غذى بمفاهيم جديدة تدرج فيها‬ ‫م�ن أجل موافقة العصر ال�ذي تتجدّ د فيه‪ .‬وهذا هو الذي‬ ‫يبع�ث التفكي�ر ثانية في الماض�ي الذي يصب�ح حضوره‬ ‫ملح ًا حينما تش�رف المجتمعات عل�ى حاالت تغيير في‬ ‫ّ‬ ‫قيمه�ا وأخالقياته�ا وتصوراتها عن نفس�ها وعن غيرها‪.‬‬ ‫مشوش ًا‪،‬‬ ‫ينبثق تفكير ملح بالماضي حينما يكون الحاضر ّ‬ ‫وعلى عتبة تحوالت جذرية إما بس�بب مخاضات التغيير‬ ‫الداخلي أو بفعل المؤثرات الخارجية‪.‬‬ ‫ً‬ ‫حالي�ا ازدواج ًا خطير ًا‬ ‫تعيش المجتمعات اإلس�المية‬ ‫ّ‬ ‫«منحطة» ولم‬ ‫تختل�ط فيه قيم روحية «رفيعة» وقيم مادية‬ ‫تفل�ح في ف�ك االش�تباك بين االثني�ن على أس�س عقلية‬ ‫واضح�ة؛ فالقي�م األول�ى حبيس�ة النص�وص المقدّ س�ة‬ ‫وحواش�يها‪ ،‬وق�د آل�ت إل�ى نم�وذج أخالق�ي متع�ال‬ ‫يوجه الحاض�ر انطالق ًا م�ن الماضي‪ ،‬أما‬ ‫يم�ارس نف�وذ ًا ّ‬ ‫القي�م الثانية فقد غزت الحياة بش�تى جوانبه�ا‪ ،‬باعتبارها‬ ‫إفرازات مباش�رة لنمط العالقات االجتماعية والسياسية‬ ‫واالقتصادية في العصر الحديث‪ ،‬فاصطدمت وتداخلت‬ ‫جمل�ة من القيم المختلفة ف�ي مرجعياتها ووظائفها‪ ،‬فلم‬ ‫تع�د تلك المجتمع�ات قادرة ال على الدخ�ول إلى قلب‬ ‫الحداثة وال االنفصال عن الماضي‪.‬‬ ‫الكوفة‪ ،‬السنة ‪ ،2‬العدد ‪ ،4‬خريف ‪249 2013‬‬ ‫ّ‬ ‫محكمة‬ ‫الكوفة‪ :‬مجلة فصلية‬ ‫الهوامش‬ ‫متخصص يف‬ ‫* عبد اهلل إبراهيم ناقد وأستاذ جامعي من العراق‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الدراسات الثقافية والفكرية‪ .‬نال درجة الدكتوراه يف اآلداب‬ ‫العربية عام ‪ 1991‬من جامعة بغداد‪ .‬أصدر أكثر من ‪20‬‬ ‫كتاب ًا‪ ،‬عمل أستاذ ًا للدراسات األدبية والنقدية يف اجلامعات‬ ‫العراقية‪ ،‬والليبية‪ ،‬والقطرية منذ عام ‪ 1991‬لغاية عام ‪.2003‬‬ ‫ثم منسق ًا جلائزة قطر العاملية من ‪ .2010-2003‬ويعمل حالي ًا‬ ‫خبري ًا ثقافي ًا متفرغ ًا بالديوان األمريي يف الدوحة‪ ،‬وهو باحث‬ ‫مشارك يف املوسوعة العاملية (‪Cambridge History of Arabic‬‬ ‫‪.)Literature‬‬ ‫‪ 250‬الكوفة‪ ،‬السنة ‪ ،2‬العدد ‪ ،4‬خريف ‪2013‬‬